مُساءلة العلمانية اتجاه متصاعد في الفكر الغربي، يرفض النظر إليها كأيديولوجيا مقدسة، ويناقش جدواها بعد قرون من الاقتناع والتطبيق، رغم أنها أنتجت حلولاً لمشكلات مستعصية في التجربة الغربية، منها التلازم بين السلطتين الدينية والسياسية، والحروب الدينية، وانتشار التعصب.
يطرح هذا الاتجاه الجديد فكرة «ما بعد العلمانية» التي تؤشر لعودة القيم الروحية والأخلاقية للعلمنة، ويعتبر الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس» الأكثر استخداماً لهذا المصطلح، وكذلك مشروع الفيلسوف البولندي «زيجمونت باومان» لنقد الحداثة الغربية، وكذلك المفكر الكندي «تشارلز تايلور» في كتابه «العصر العلماني».
ولــــكن، ماذا عن مساءلة العلمانية العربية، التي تبدو مصطلحاً غير مقبول، وسيئ السمعة، ليس على مستوى الطرح الفكري فقط، ولكن على مستوى التطبيق، الذي جاء مقروناً بالانغلاق والتعصب، ومقاومة الديمقراطية، وقمع الحريات، والتأسيس لنموذج الدول القمعية والفاشلة، واتخاذ التجربة الغربية مرجعية ومعياراً.
فهل كانت العلمانية نتاج حراك وصراع أفرزته البيئة والمجتمعات العربية، أم أنها تجربة وأفكار هبطت عليها من الخارج؟ وهل كانت حلاً للمشكلات العربية، أم أضافت أزمة معقدة إلى أزمات المنطقة؟ وهل أنتجت العلمنة نموذجاً للتحديث في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أم كانت فشلاً جديداً، ولم تؤد إلى تقدم أو نهوض؟
سقوط من الخارج
العلمانية العربية لم تكن إجابات عن تساؤلات وأزمات عانى منها الواقع العربي والإسلامي، ولكن كانت اقتباساً للتجربة الغربية ومحاولة إسقاطها قسراً على المجتمعات العربية، لكن الأخطر هو تعامُل المثقفين العلمانيين معها وكأنه أيديولوجيا دينية، رأوها طريقاً وحيداً لبناء المجتمع العربي الحديث، وصيرورة تاريخية لا بد أن تذعن لها المجتمعات العربية.
في كتابه «نقد النص»، انتقد د. علي حرب، المفكر اللبناني، العلمانية العربية، فرغم أن الفكر العلماني الحديث أخذ يغادر منطقة اليقينيات، ويتحرر من الأنساق المغلقة والمذاهب الشمولية، فإن التجربة العلمانية العربية ما زالت أسيرة لمقولاتها، وصراعاتها الموهومة، فيقول: «والأهم بالنسبة إلينا، نحن العرب، أن مقولات التنوير والتقدم والتحديث والعلمانية لم تؤت ثمارها، بل فقدت مصداقيتها وغدت مجرد أسماء يتعلق بها الدعاة المحدثون كما يتعلق المؤمن باسم ربه».
ووجَّه حرب انتقاداً حاداً لأحد أقطاب العلمانية، وهو د. حامد نصر أبو زيد، فوصفه بأنه «تقدمي علماني في ملفوظاته، ولكنه أصولي من حيث منطقه وبنية تفكيره، فهو يتعامل مع مقولاته كما يتعامل الأصولي مع أصوله الثابتة»، ونموذج أبو زيد متكرر في تعاطي المثقف العلماني مع الواقع العربي، حيث يرى هؤلاء أن الأزمات العربية نتاج للنص الديني، وليس نتاجاً لسلطة الدولة الاستبدادية، التي نشأت من رحم التجربة الاستعمارية الغربية، وأسست للقمع والفشل.
ورغم تشدق العلمانية العربية بالعقلانية، فإنها كانت أبعد عن ممارستها، فقد سعت إلى احتكار السلطة والشرعية وقمع كل الاتجاهات والأفكار المنافسة، ومصادرتها وتجريمها، وتعاملت مع شعارات العلمنة كأنها مطلقات واجبة الإذعان، وهو ما جعل العلمنة جزءاً من الأزمات العربية.
ورغم ادِّعاء العلمانية تمسكها بحرية الفكر، فإن قبولها للآخر كان نادراً، فكان نهجها استبدادياً إقصائياً؛ بل إن علاقتها مع الحريات جاءت مطبوعة بالاستبداد، ومساعي فرض النموذج بالقوة والقسر وليس بالحرية والديمقراطية، فكان احترامها للرأي الشعبي قليلاً، وإحساس العلمانيين العرب بنخبويتهم كان عالياً ونرجسياً؛ فترفعوا عن الشعب، وانحصروا في مقولاتهم متغافلين عن الواقع، فكان خطابهم لأنفسهم، وكما يقول حرب: «إنه لا يوجد علماني واحد أنتج فكراً ذا أهمية حول المجتمع العربي».
بدلت العلمانية العربية موقفها المناهض للتخلف والتراجع الحضاري، ليكون موقفاً مناهضاً للدين على غرار التجربة الغربية، ففي الحالة الغربية نشأت العلمانية، لمواجهة سلطة الكنيسة المستولية على السلطة الزمنية، غير أن العلمانية العربية اقتبست التجربة الغربية وهي مغمضة العينين، فخاضت معركة موهومة مع الدين بعدما حمَّلته مسؤولية الفشل.
كذلك، فإن العلمانية العربية لم تسع فقط -في أغلب التجارب- إلى فصل الدين عن الدولة، ولكنها سعت لفصل الدين عن جميع مجالات الحياة، متحدية تجذر الدين في الحالة العربية، كما أن مساعيها لاستبدال القومية بقوة الدين؛ أوجد صراعات وانقسامات عنيفة ودامية في الحالة العربية وحروباً أهلية، ومن الممكن قراءة تجربة الأحزاب القومية العربية خاصة حزب البعث في نسختيه العراقية والسورية.
ويبدو أن الأديب اللبناني أمين معلوف كان مصيباً في قوله: «الدكتاتوريات التي تدّعي العلمانية هي مناجم التعصب الديني»، لذلك سعت العلمانية العربية لهز ثقة الشعوب في دينها، فنجد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة شكك في فريضة الصيام، وادعى أنها تقلل الإنتاج، وألغى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر القضاء الشرعي في سبتمبر 1955م، فألغى 137 محكمة شرعية، وبذلك تحولت إلى سلطة الدولة لتكون صارمة في مواجهة الدين، رغم أن الإسلام لا يعرف الكهنوت، على خلاف التجربة المسيحية، فإذا كانت نشأة العلمانية في السياق الأوروبي لها ما يبررها، فإنها تفتقد تلك المبررات في الإسلام.
ومن ثـم فإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة لم تكن مطروحة في السياق الإسلامي، ولكن الإشكالية الحقيقية كانت الاستبداد، تلك المسألة التي يأخذ الدين منها موقفاً حاسماً، رغم استخدام السلطة السياسية لبعض علماء الدين لإسباغ الشرعية على استبدادها؛ لذلك فإن المتابع لتاريخ النهوض الإسلامي في العصر الحديث سيلحظ أن أغلب دعاة مقاومة الاستعمار والدعوة للديمقراطية والحكم النيابي كانوا يقفون على أرضية إسلامية، وكانوا من علماء الدين ومُصلحيه، وكان هؤلاء يرون تلازماً بين الإسلام والإصلاح والنهوض والتقدم.
تجربة أليمة
يحمل التطبيق العلماني ذاكرة سيئة؛ بل ومرعبة، فالعلمانية عندما أمسكت بمقاليد السلطة كانت إقصائية، ففي التجربة التونسية، عانى التدين من التضييق والتجريم، فكانت محاربة الحجاب، وكان قمع التعليم الديني، مثلما جرى في تونس في الزيتونة، فكان من أوائل قرارات دولة الاستقلال إلغاء التعليم الزيتوني، في نوفمبر 1958م، وكانت العلة توحيد الأنظمة التعليمية؛ وهو ما انعكس في بناء الهوية التونسية، التي كان يرغب بورقيبة في بترها عن جذورها الإسلامية العميقة، وفي التجربة الناصرية تم إفقاد المؤسسة الأزهرية لاستقلالها مع قانون عام 1961م، الذي أخضع سلطة شيخ الأزهر لوزير الأوقاف، وأضعف استقلال الأزهر.
لم تكتف الدولة العلمانية العربية بالفصل بين السياسة والدين، وإنما سعت للاستيلاء على الدين وتأميمه على مدار تاريخها، فرأت أنه وسيلة لتحقيق شرعيتها جماهيرياً، ورفضت أن يكون له دور سياسي فاعل، داخل المجتمعات، لذلك كانت الدول العلمانية ذات ميول انقلابية، وتجلى ذلك في التجربة الديمقراطية بالجزائر التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، عام 1991م، في جولتها الأولى، فتم إلغاؤها، إذ كانت العلمنة تفرض وصايتها بالقهر على الشعوب.
وعلى مستوى الفشل، كانت الدولة العربية ذات التوجه العلماني فاشلة في أغلب تطبيقاتها، بل كانت هزائمها منكرة في التنمية وحتى في ميادين القتال، ففي التنمية لم تؤد المشاريع التنموية، سواء ذات التوجه الاشتراكي أو القومي، إلى نهوض اقتصادي، أو تحقيق تنمية حقيقية، ولكن كان أغلبها فقاعات نفخت فيها السلطة من روحها، ثم تبين حجم الفشل والفساد في تلك المشاريع، فتم التخلص من آثار التجربة من خلال بيع القطاع العام والتحول نحو الخصخصة؛ فتوسع الفقر حتى التهم الكثير من فئات الشعب، وأخذت الطبقة الوسطى في أغلب المجتمعات العربية تتآكل بفعل سياسات التنمية الفاشلة.
وفي مجال الحريات، كان القمع شديداً، فلم تعرف الدولة ذات التوجهات العلمانية إلا إهدار الحريات، وتغييبها للنهج الديمقراطي، وتناست العلمانية العربية أن مشكلتها ليست مع الدين بوصفه ديناً، بل مع الدولة المستبدة، وعندما ضلت المواجهة، كانت الانقسامات عميقة داخل المجتمعات بفعل العلمنة، وكان من الواجب أن تواجه العلمانية العربية هيمنة حفنة معينة من النخب على القرار والموارد دون الشعوب، أو ممارسة مؤسسات معينة للاستبداد، لكن العلمانية العربية فضلت المواجهة الآمنة مع الدين، دون مواجهة السلطة المستبدة، مما رسخ الأزمات.
مستقبل العلمانية العربية لا ينفك عن واقعها المأزوم، لكن المستقبل لا يرحب كثيراً بالعلمنة في أغلب التجارب العالمية، ويعتبرها مسؤولة عن أزمات عميقة للإنسان المعاصر، ورغم ذلك يغرد العلمانيون العرب بنفس أفكارهم ومقولاتهم العتيقة التي لا تجديد فيها ولا إبداع.