روى ابن عساكر في «الطبقات الكبرى» أن عروة بن الزبير رحمه الله، أحد علماء وعباد التابعين؛ طلب منه الخليفة الوليد بن عبدالملك زيارته في دمشق مقر الخلافة الأموية، فأخذ عروة معه أحب أبنائه السبعة إليه، فلما كان في الطريق إلى الشام، أصيب في الطريق بمرض الآكلة في رِجله (وهي ما يسمى في عصرنا الغرغرينا)، حتى قرر الأطباء بتر رجله من الساق، فلما اجتمع الأطباء عليه، قالوا: اشرب كأسًا من الخمر؛ حتى تفقد شعورك، فأبى عروة، وقال: كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟! قالوا: فكيف نفعل بك إذًا؟ قال: دعوني أصلي، فإذا أنا قمت للصلاة، فشأنكم وما تريدون، فقام يصلي، فلما سجد، كشفوا عن ساقه، وأعملوا مشارطهم في اللحم حتى وصلوا العظم، ثم أخذوا المنشار فنشروا العظم حتى بتروا ساقه، وفصلوها عن جسده، وهو ساجد لا يحرك ساكنًا، ثم أحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه؛ ليوقف نزيف الدم، فلم يحتمل حرارة الزيت؛ فأغمي عليه.
وفي هذه الأثناء، أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة كان يشاهد خيول الخليفة، فرفسه أحد الخيول فقضى عليه ومات.
فلما أفاق عروة اقترب إليه الخليفة وقال: أحسن الله عزاءك في رجلك، فقال عروة: اللهم لك الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قال الخليفة: وأحسن الله عزاءك في ابنك، فقال عروة: اللهم لك الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أعطاني سبعة وأخذ واحدًا، وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحدًا، إن ابتلى فطالما عافى، وإن أخذ فطالما أعطى، وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة، ثم قدموا له طستًا فيه ساقه وقدمه المبتورة، فأخذ يقلبها ويقول: إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصيةٍ قط، وأنا أعلم.
ومضت الأيام، وكان الخليفة الوليد يجلس في مجلسه، فدخل عليه شيخ طاعن في السن، مهشم الوجه، أعمى البصر، فسأله عن قصته، فقال الشيخ: إني بتُّ ذات ليلةٍ في وادٍ، وليس في ذلك الوادي أغنى مني، ولا أكثر مني مالًا وحلالًا وعيالًا، فأتانا السيل بالليل، فأخذ عيالي ومالي وحلالي، وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفلًا صغيرًا وبعيرًا واحدًا، فهرب البعير، فأردت اللحاق به، فلم أبتعد كثيرًا حتى سمعت خلفي صراخ الطفل، فالتفت فإذا برأس الطفل في فم الذئب، فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك؛ فقد مزقه الذئب بأنيابه، فعدت لألحق بالبعير، فضربني بخفه على وجهي، فهشم وجهي وأعمى بصري، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، قال: وما تقول يا شيخ بعد هذا؟ فقال الشيخ: أقول: الحمد لله الذي ترك لي قلبًا عامرًا، ولسانًا ذاكرًا.
فقال الوليد لما سمع قصته: انطلقوا به إلى عروة؛ ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً.
وإن العبد ليقف أمام هذه النماذج فيستحيي من ربه فلا هو شكر على عظيم النعم شكر موهوب ولا هو صبر على صغير البلايا صبر مقرب محبوب، وهو بين هذه وتلك ربما يظن نفسه من الصالحين المقربين السابقين في العزم والفضيلة.
وإن هذه القصص تروى في أبواب التصبر، وإنها لحري بها أن تكون في أبواب التدبر، إذ تقف حكمة الله في خلقه عند كل حادث محل تأمل، فنحن نرى ظاهر البلية ووجه الضر بينما لا يدري بباطنها إلا الله، فربما كانت عين العطية وربما كانت مصيبة في الدنيا جائزة في الآخرة، فالله الله في حسن الظن بالله، وبلوغ مقام الرضا في الأحوال.