تدور نفس الحوارات التي مضى عليها ما يقارب ربع قرن؛ كل شيء ما يزال كما تركه الراحلون، لا شك أن الوجوه تغيرت، في هذه البلاد يتوارثون الأمكنة بل الحظوظ، يدبون في الممرات بين العربات كأنهم ديدان الأرض، كانت صغيرة تتبع أباها، يبتاع منه المسافرون حبات الفول السوداني، تحمل علب المناديل الورقية، تتدحرج أوزة بين المقاعد، رأيتها اليوم مكتنزة خط الزمن وتعرجاته، ترمي بكتلة جسدها هدها التعب، لا يشترون منها أعواد الحمصية قد نحلت فصارت أشبه بالعهن المنفوش!
يدور عراك حول فريقي كرة القدم، يصيخون كما القردة، لا تكاد تجد غير حركات أيديهم، في غير معركة يثيرون الغبار، أشفق عليهم!
يأتي بائع الشخاليل، يعلو رأسه طربوش أحمر يتراقص زره، أعاود النظر إليه؛ في وسط جسده حزام يشده على سيف من خشب!
أتذكر أستاذي حين عرض للنكبة تبعتها النكسة وهزائم تترى، علل وأدواء لم تجد جراحا، أنكفئ على المقعد الخشبي ينزف فخذي دما، هذا أوان الحصاد!
لما تعد تلك التفاصيل شهية أحد، كل يعيش في عالمه، يتبع ظله.
أتذكر مخبر المحطة، كان طيبا، يمسك بعصاه، يرقب العابثين، كنا نهابه، حين نفر من محصل التذاكر يخبره بأننا عصافير لم تغادر أعشاشها بعد!
الآن صارت نوافذ ذكية تترصد الركاب، تكاد تشي بهم!
يأتي محصل التذاكر ينظر في وجهي، أبدو كائنا غريبا، نظرات عيني تتبع كل شيء، لا يعلم أنني أدون تلك التفاصيل، أمسك بقلمي، أسترجع الذين كانوا هنا، غير أن عالمي لم يعد له وجود، ترى أين زميلي محسن؟
كان نابغة في الرياضيات، يجيد رسم المساقط، نلتف حوله، أشبه بالحواريين حول المسيح!
ندير حوارا، نملأ صدورنا بهواء غد تتراقص فيه الأحلام؛ كنت أنتظرها، تتهادى قمرا!
كل شيء ما يزال صامتا في هذا المكان، لا صوت يعلو فوق حركة قطار أشبه بوحش يفترس الحملان!
امرأة عجوز تمد يديها، تخشب ظهرها، تنقدها إحدى النساء خمسة جنيهات، أتحسس جيبي يصفر فيه الريح!
يتمايل درويش تتناثر لحيته، يشتد النقاش حول فريقي الكرة، لا أحد ينظر في الأفق، “بعث الله غرابا يبحث في الأرض”، هكذا تلا الدرويش!
يبلغ به الوجد منتهاه: مدد !
أجول ببصري، لا أحد يفتح جريدة أو يطالع في كتاب، ثمة آخرون اكتفوا بمشاهدة تلك المسرحية، تصلح عربة القطار تلك لأن تكون مشاهد دراما واقعية، أفكر في تقديمها على خشبة المسرح.
كل شيء هنا يحتاج تلك المعالجة!
يصدر قطار الظهيرة صافرته، يكاد يلتهم البشر يقبعون في بطنه، تغادر بائعة الحمصية مقعدها، تنادي على بضاعتها، تقترب مني؛ تمط شفتيها: أي جنون أصابك؟
تسألني،
– لست مجنونا بغير تلك اللحظة أسجلها!
– ما تزال تكتب؟
– بلى
تذكرني بمقولة سعد زغلول؛ أبتسم في مرارة!
تهبني قطعة حلوى؛ أشكرها، تتبع خطوي، في المرة القادمة لن يحمل قطار الظهيرة هؤلاء الذين تسربوا في الممرات الخلفية، يفترسهم ذلك الغول الذي سرق منهم سنوات العمر!