يسعى العلمانيون في الوطن العربي والإسلامي إلى تسويق العلمانية لدى الشعوب بمختلف الأساليب والوسائل التي تحاول إظهارها على أنها المنقذ لهم من التخلف الذي يعانون منه، وفي المقابل يصورون الإسلام وشريعته على أنهما هما سبب هذ التخلف، ومن ثم فعلى الشعوب أن تنحي الإسلام –أو الدين بصورة عامة- جانباً لصالح العلمانية.
لكن هل انطلت هذه الأساليب الخادعة على الشعوب فرضيت بالعلمانية بديلاً للإسلام؟ ذلك ما يسعى إليه هذا التحقيق للإجابة عنه في السطور التالية من خلال استطلاع رأي عدد من الخبراء والمختصين والدعاة الذين يمثلون عدة مجتمعات ودول عربية مختلفة.
الكرمي: كثير من الطغاة تستروا بدثار العلمانية وعناوينها البراقة فأخذوا ما يناسبهم منها
كانت البداية مع د. حافظ أحمد الكرمي، الناطق الإعلامي باسم هيئة علماء فلسطين، الذي أكد لـ«المجتمع» أن العلمانية مصطلح ملتبس له معانٍ ومفاهيم متعددة في الفكر السياسي بشكل عام، وإن كان له معنى شائع في الغرب؛ وهو «فصل الدين عن الدولة»، وقد حاولت بعض النخب في العالم العربي استيراده والتبشير به، وخاصة في مجال الحكم والتشريع والتعليم والتربية والثقافة والعلاقات الاجتماعية، لكن وقف لصده وحماية الأمة من آثاره الفاسدة العلماء الربانيون والحركات والأحزاب الإسلامية ومن ثم الصحوة الإسلامية لاحقاً للحد من تأثيره المباشر وغير المباشر.
وأضاف الكرمي أن كثيراً من الحكام الطغاة تستروا بدثار العلمانية وعناوينها البراقة؛ فأخذوا ما يناسبهم منها فقط دون جوهرها في حرية التعبير والتداول السلمي للسلطة من خلال صناديق الاقتراع واحترام إرادة الأمة، كما استقطبت العلمانية أحزاباً وتيارات قومية ويسارية وليبرالية وكتاباً يأخذون مفهومها الإلحادي، لكنها بقيت تيارات هامشية فقدت حضورها في وجدان الشعوب العربية منذ زمن، وتحالف معظمها بشكل مخزٍ وفاضح مع أنظمة دكتاتورية وانقلابات دموية دمرت أحلام الشعوب في الحرية.
وأكد الناطق الإعلامي لهيئة علماء فلسطين أن الاعتقاد السائد والمهيمن على وجدان شعوبنا العربية هو أن الإسلام دين ودولة، ولا يمكن الفصل بينهما مع ضرورة التوازن بين الديني والدنيوي، والسلوكي والقيمي، والمادي والروحي، والسياسي والمدني، وثبت ذلك في كل المرات التي سُمح لهذه الشعوب بالتعبير بحرية عن رأيها ومشاعرها في كافة الاستحقاقات الانتخابية العامة والنقابية والطلابية وغيرها في معظم الوطن العربي من شرقه إلى غربه.
نافع: العلمانية ستلقى مصير أخواتها من الأفكار الفاسدة التي انهارت أمام عظمة دين الله
أثمان باهظة
ويرى إيهاب نافع، عضو المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين، القيادي بالجماعة الإسلامية في لبنان، أن الشعوب العربية والإسلامية تدفع اليوم الأثمان الباهظة للبُعد عن دينها، وغزو أفكار أبنائها وبناتها بأخلاق بعيدة عن روح وأخلاق الإسلام، ودفعهم إلى تقبّل الإلحاد والشذوذ والإباحية بدعوى الحرية وتقبّل الآخر؛ في الوقت الذي لا يتقبّلون المتدين ولا أفكاره ولا معتقداته، وكأنّ الحرية هي أن تتقبل شذوذهم وأفكارهم ولا تتقبل الدين والتدين!
وأكد نافع أن شعوبنا بمختلف أطيافها تحصد اليوم نتيجة مرور الأمة الإسلامية بحقبة مظلمة من تحكم المحتل الأجنبي بمصير البلاد ومقدراتها وتسليمها إلى حفنة من الذين تربوا في أحضانهم، ونشؤوا على أفكار العلمانية المتوارية تحت ستار العلم والحريات، داعياً شباب الأمة إلى الرجوع لتعاليم دينهم، وتعرية فكرة العلمانية وإظهارها على حقيقتها المجردة، وفضح محاربتها للإسلام ووصمه بالإرهاب تارة، وبالرجعية تارة أخرى، ومواجهة نشرها للإلحاد والشذوذ والشرائع والمعتقدات الفاسدة.
وتنبأ نافع بأن تلقى العلمانية مصير أخواتها من الأفكار الفاسدة التي سادت في عصور سابقة، ثم ما لبثت أن انهارت واندثرت أمام عظمة دين الله تعالى الذي لا يمكن لفكرة بشرية -مهما تضافرت القوى لنشرها والدفاع عنها- أن تصمد أمامه، مهما حاول المنتفعون الذين تصدّروا المشهد السياسي العربي الدفاع عن العلمانية بحماس؛ كيف لا وهم لم يصلوا إلى مناصبهم إلا بسبب انتشار هذه الفكرة الهدامة التي تحارب الدين وتعمل على استئصاله.
وقالت البرلمانية الجزائرية عائشة بلحجار، ود. أحمد بن شريف، الباحث في الأنثروبولوجيا، في دراسة مشتركة لهما حول العلمانية: إن مروجي العلمانية في بلادنا العربية يستهدفون الدين باعتباره ليس حقيقة، ويزعمون أن الإسلام لا يعدو أن يكون معوقاً للتنمية وبناء الحضارة، ومن هنا يكون إقصاءُ الإسلام من واقع حياة الناس في العالم الإسلامي الهدفَ الرئيس للعلمانيين العرب، ولا يمكن بزعمهم تحت أي ظرف إقامة المجتمع المتمدن وبناء الحداثة إلا بالتخلي عن كل القيم الدينية، والإسلامية منها على وجه الخصوص، وهذه الأطروحة على النقيض من القيم والأخلاق الإسلامية وأسلوب البناء المجتمعي.
واستشهدت الدراسة بمقولة المفكر عبدالوهاب المسيري بأن «العلمانية لا يمكن أن تتعمق في الوجدان الشعبي، وممارساته اليومية، ومعتقداته»، لكن رغم ذلك يمكن رصد بعض آثار وسلبيات العلمانية في مجتمعاتنا العربية، مثل:
– انشطار اجتماعي عميق بين النخب العلمانية المتمكنة من المؤسسات والجماهير.
– تقسيم التعليم إلى ديني ومدني، وهو ما خلق انشطاراً اجتماعياً عميقاً.
– إهدار موارد الأمة في تطبيق منظومات خارج قيمها.
– الإفساد الأخلاقي للشباب والمجتمعات بما يروَّج من مخدرات، ومشروبات، وتفكك أسرى، وغير ذلك.
– إلغاء الأساس الذي بنيت عليه الأمة العربية، وبقاؤها دون مرجعية ذاتية وفي حالة تبعية للغرب.
الجبة: لا مستقبل للمد العلماني في وجدان الشعوب العربية لأنها تجاوزته بجهود الدعاة
رفض شعبي
من جهته، قال د. سامح الجبة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العضو المؤسس للمجلس الأوروبي للأئمة: إنه ليس هناك مستقبل للمد العلماني في وجدان الشعوب العربية؛ لأن شعوب منطقتنا تجاوزت هذا كله بجهود المخلصين من دعاة الإسلام المصلحين، مهما حاول المضللون المقارنة بين واقع الحياة والتقدم التقني في الغرب العلماني، وواقع العرب والمسلمين المتخلف، زاعمين أن السبب في هذا التخلف هو الدين الإسلامي وليس بسبب الاستبداد والدكتاتورية والحكم العسكري والبُعد عن تعاليم الإسلام.
وأضاف أن مجتمعاتنا العربية المسلمة لا تعاني من تسلط الكنيسة على المجتمع كما كان في الغرب، ولا من حكم رجال الدين بـ«تفويض إلهي»، ويرفضون العلمانية وفصل الدين عن الحياة؛ لأن الإسلام يرفع قدر العلم والعلماء، والحاكم أجير عند الأمة تحاسبه وتعترض عليه وتعزلهُ إذا لزِمَ الأمر.
مجولي: المنطقة العربية لم تر حاكماً مغالياً في تمسكه بالعلمانية مثل بورقيبة
وقال الشيخ شكري مجولي، الداعية التونسي بالعاصمة البريطانية: إن المنطقة العربية لم تر في تاريخها حاكماً مغالياً في تمسكه بالعلمانية مثل الحبيب بورقيبة، حاكم تونس الأسبق؛ الذي كان يناوئ التعاليم الإسلامية، حتى إنه عطل فروض شرعها الله تعالى بزعم أنها تعطل الإنتاج وهي فريضة الصيام، كما أنه منع التعدد في تونس بحكم القانون، ومارس التضييق على المساجد، وأغلق جامع الزيتونة، وطارد علماءه وأعدم بعضهم، وأشهرهم الشيخ عبدالعزيز العكرمي عام 1962م.
وأوضح مجولي أن تونس لاقت حصاداً مراً للعلمانية منذ عهد بورقيبة ومن خلفوه، حيث دعا إلى نسخ نصوص القرآن في الزواج والميراث، وسن قوانين للأحوال الشخصية مخالفة لأحكام الإسلام في الطلاق وكفاءة الزواج، والتعدد الذي منع بالقانون، بينما أباح عملياً بالقانون التبني الذي حرمه الإسلام، كل ذلك بزعم التطور!
قرابة: علمانيو الجزائر خففوا من عداوتهم للإسلام طمعاً في تأييد شريحة من المجتمع
بدوره، شدد د. كمال قرابة، الأكاديمي والناشط السياسي الجزائري بحزب البناء الوطني، على أن ما يمكن أن يميز مظاهر العلمانية بين الجزائر وغيرها من دول المشرق العربي هو احترام الإسلام ومكانته، وعدم التجني على الدين بصفة مباشرة، وإجبار أصحاب توجه الطرح العلماني المعادي لكل ما يتصل بالإسلاميين المشاركين في العمل السياسي وفي الصراع على التراجع وتخفيف حدة عداوتهم للإسلام؛ طمعاً في الفوز بتأييد وثقة شريحة من المجتمع الجزائري المسلم.
وأضاف قرابة أنه مما يسجل أيضاً خلال السنوات الخمس الأخيرة هو تراجع أدبيات ووثائق أحد أشد الأحزاب المتصدرة للمكون العلماني في الجزائر؛ حيث تم حذف كلمة «العلمانية» بشكل كبير؛ مما يعني وصول منظريه لقناعة بوقوف هذا المصطلح عائقاً لأي تمدد شعبي وجغرافي، أو أي توسيع للحاضنة الناخبة في عموم الجزائر، والتأكد من حساسية الشعب الجزائري الدائمة من العلمانية؛ نظراً لتمسكه الوثيق بالدين الإسلامي كأهم عناصر الهوية الوطنية ورمز وحدته وانتمائه الأممي والحضاري.