المساواة
فمتى أذن مؤذن الحج أتاك الناس من كل فج عميق، على اختلاف أعراقهم وألوانهم وألسنتهم، لا فرق في ميزان الله تعالى بين أبيضهم وأسودهم وعربيهم وعجميهم إلا بالتقوى، وهذا كله حق لا مراء، إلا أنه عند التعمق في تصور مفهوم المساواة وتطبيقاته في أذهان كثير من المسلمين تجده مشوبًا بآثار ثقافات وعقائد أخرى، يتصدرها التصور الإنساني، ومن الآفات الفكرية التي ابتليت بها مناهج كثير من الخطاب الدعوي محاولات إبراز التقاطع أو التلاقي أو الاتفاق بين تصور المفاهيم الوجودية (المساواة، الحرية، العدل، الحق، الكرامة..) في الإسلام وتصورها في غيره، بل والدعاية للإسلام بوصفه الأسبق لكل الفلسفات البشرية والتشريعات الوضعية في تقرير حقوق الإنسان وعلى رأسها المساواة بين الناس!
وإذا كان الحج مثابة إيمانية وجدانية؛ أي: مردّ ومرجع تتعلق به القلوب، فهو كذلك مثابة إيمانية فكرية؛ إذ لا يطمئن القلب حتى ينسجم الفكر مع الوجدان، وتتفق حركة العقل مع القلب، ولذلك كان الكلام على الحج مناسبة مواتية للتذكرة بحُجّة الله البالغة، والتأكيد على الفرقان بين حق الإسلام وباطل ما عداه، وامتناع التوافق أو التقاطع بينهم حقيقة وإن بدا للنظرة السطحية إمكان ذلك.
فرق المنطلق والمنتهى
إن التصور الشرعيّ للوجود يقوم على ثنائية خالق له الأمر مطلقًا ومخلوق عليه الائتمار مطلقًا، ورب مالك مطلق المشيئة في ملكه، ومملوك تابع لأمر مالكه فيه، وبالتالي فكلّ القيم الوجودية (المساواة، الحرية، العدل، الحق، الكرامة..) تابعة لحكم الله تعالى فيها حين أرساها، لا أنها قائمة بذاتها وحاكمة على الشرع، ومن ثم فالاستدلال على معانيها ومعاييرها وتطبيقاتها يكون بتتبع حدود الشارع في أمره ونهيه، وأي معترض على أي جزئية في تشريع الإسلام، إنما يُجادِل في أصل التصور الإسلامي للحياة ومبدأ طلاقة الحكم الإلهي في الكون، فشريعة الإسلام ربّانية الأصل والمنبع، وليس رؤية جماعة بشر ارتأت من تلقاء نفسها هذه التطبيقات، والله تعالى شرع للناس ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وما يكفل لهم السعادة والحرية والعدالة، بالتصور الربّاني لا الإنساني لتلك المصطلحات.
هذه كلها أسس معدومة تمامًا في التصورات البشريّة ومنطلقها التشريعي ومقاصدها التنفيذية، لهذا يبدو التعارض بين ظاهر التصور الشرعي مع ما يستحسنه العقل البشري من معايير وتصورات، لأن ما يستحسنه العقل اليوم متأثر بالعرف السائد والثقافات الإنسانية المستوردة! ومن هنا كان خطأ من يُعرّف العدالة –مثلًا- باستحسان شخصي سطحي أو تصوّر عقلي مُتلبّك، ثم يروح يحاكم أفعال الله تعالى وتشريعه إليها، فيرى هذا التقسيم عادلًا وهذا غير عادل، أو يرى أنّ هذا الحكم جائر وذاك مُنصِف! وقِس على ذلك تجد اختلاف المنطلق بين من يؤمنون بالله تعالى ربًّا فيعتقدون بالتالي في سلطة التشريع الإلهي والحكم الشرعي وطلاقة مشيئة الخالق في خلقه وقسمته بينهم، ومن يكفرون بالله تعالى ويعتقدون في أي سلطان سواه، وبناء على اختلاف المنطلق تكون اختلاف الإجابة ويكون اختلاف وقعها في النفوس.
من المواد المتعلقة بمفهوم المساواة كما نصّت عليه وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على موقع الأمم المتحدة، نقتبس المادتين الأولى والثانية:
مادة (1): يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء.
مادة (2): لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر.
ورغم ما قررته تلك الوثيقة وغيرها، لا تجد نظامًا بشريًا وَضْعيًا عَمَد إلى تطبيق تلك المساواة التامة حقًا، أو حتى نجح فيها فعلًا! وإذا تأملنا في الثنائيات الوجودية اللازمة، كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والذكورة والأنوثة، والكِبَر والصغر، والشباب والهرم.. إلخ، سنجد أنّ التفاوت الواقع حقيقة بين البشر ينافي إمكان تحقق المساواة الفعلية بينهم بإطلاق أو اطراد، وكل سجالات المساواة التامة التي خَرَمت الآذان لم تتعدَّ الحيز النظري للتطبيق العملي حتى الآن، بل إن كلّ محاولات التسوية القسريّة بين البشر رغم تفاوتهم الفطري والمعيشي هي عين الظلم والإجحاف والفوضى الوجودية!
ومع كل تلك الإشكالات، تم استيراد مبدأ المساواة ذاك باعتباره موافقًا لأفهام سطحية لبعض الآيات والأحاديث، مع أنها لا تشير حقيقة للمساواة بالتصور الأجنبي، وإنما تشير لرفع الظلم وضمان عدم الجَوْر بين الناس على تفاوتهم، وفق الحقوق التي رتبها الشارع لكلٍّ بحسب خِلقته وحاله ومسؤولياته، والتكليف الذي قام عليه وفق طاقته وقدراته، فإذا كان بين الناس تفاوت مقدور في الطاقات والتكليف والحساب، فمنطق الحق العدل يجري بأن تختلف بينهم كذلك توزيعات الحقوق والأدوار، بما يعين كُلًّا في سياقه المراد به من ربه.
ثم إن مفهوم العدالة نفسه ليس قيمة عالميّة الخيرية كما يشاع، ولا يعني دائمًا خلاف الجَوْر، بل قد يكون هو أحيانًا عين الظلم! فمن معاني العدل في العربية: عَدَل عن الشيء عُدولًا: أي مَالَ عنه لشيء آخر، وفي القرآن: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) (الأنعام: 1)، أي: مع كل ما أنعم الله تعالى به على العباد كَفَر به بعضهم، وجعلوا معه شريكًا عَدَلوا إليه، فكان العدل هنا بمعنى الإشراك الذي هو أعظم الظلم، فهل يقال هنا: إن العدل محمود؟! ولو كان العدل معنى شريفًا في ذاته بإطلاق وعلى الدوام، لما كان له استعمال بهذا المعنى أو في هذا الموضع.
ولا يكون العدل مفهومًا شريفًا بإطلاق إلا إذا دلَّ على ذات الله عز وجل، ويكون وقتها بالألف واللام، وفي لسان العرب: الله العَدْل، وَهُوَ الَّذِي لَا يَمِيلُ بِهِ الْهَوَى فَيَجُورَ فِي الْحُكْمِ.
وقس على ذلك مفاهيم الحرية والكرامة والتعبير.. التي لا يتسع المقام لتفنيدها واحدة واحدة، لكن تظل القاعدة أنه لم ولن يتحقق الانسجام بين تفاوت البشر من جهة ومراعاتهم في المسؤوليات والحقوق من جهة أخرى إلا في التصور الشرعي، لأنّ استقامة مخلوق على منظومة كاملة من التكاليف والحقوق والمسؤوليات والأدوار، لا تكون إلا حين توافق المنظومة خِلقَته وتهيئته، ولا يقــــع هذا التوافق إلا أن يكون الخَلق والتكليف من جهــة واحدة، ولا تتوحّد الجهة إلا من الله تبارك وتعالى، فتأمّل أيها المسلم نعمة استقامة منطق عقيدتك وسلامتها من آفات التضارب البشري، واشكرها!