تسيطر على عقولنا وأذهاننا مضامين سلبية محددة للإدمان لا تخرج عن سياق المسْكرات والمخدرات والتدخين وغيره، مما يضر الجسد، ويرهق النفس، ويعصف بالعقل.
لكن الحكمة تقتضي التفكير خارج الصندوق، والتنقيب هنا وهناك، بحثاً عن صور إيجابية للإدمان، تعود بالنفع على الإنسان.
نعم.. هناك ما يعرف بـ«الإدمان الإيجابي»، وهو مصطلح كان أول من قدمه الطبيب الأمريكي وليام جلاسر في أحد أهم كتبه التي تحمل العنوان ذاته.
ويرتكز «الإدمان الإيجابي» على وجود أنشطة إدمانية أخرى، تعود بالنفع والبهجة على الإنسان، وتكون مصدر سعادة له، وقد تنعكس على الآخرين بالخير والنفع.
ومن صور الإدمان الإيجابي: التأمل، الاسترخاء، كتابة المذكرات اليومية، القراءة، الطهي، الرياضة، الحياكة، النظافة، السياحة.. وهي سلوكيات قد تتحول إلى حالة إدمانية لدى البعض، ومصدر سعادة له وللآخرين.
يقول جلاسر: إن الكثير من الناس بإمكانهم مساعدة أنفسهم ليكونوا أكثر قوة في الحياة، عبر توظيف الإدمان الإيجابي في نيل أكبر قدر من طمأنينة النفس، والرضا عن الذات، والتطور، إلى جني مكاسب روحية ومادية من سلوكياتهم الإدمانية الإيجابية.
ويعدد الطبيب النفسي الأمريكي، مؤسس ما يعرف باسم «العلاج بالواقع»، مكاسب الإدمان الإيجابي في دفع الإنسان إلى الإبداع، وإشباع روحه بالرضا، والثقة في الذات، إضافة إلى تفريغ الشحنات السلبية، والتخلص من الإحباط والاكتئاب، وجني السلامة البدنية والنفسية، وبالتالي تجنب الانزلاق إلى صور الإدمان السلبي من مخدرات وكحول وغيرهما.
إن فكرة الإدمان كمصطلح مجردٍ تسري في ذهن الإنسان، كل حسب هواه، وميوله، ووفق البيئة المحيطة به، والضغوط التي يتعرض لها، والطموحات التي ينشدها كل يوم؛ ما يعني أن المرء منا قد يدمن النافع، وقد يدمن الضار.
وفق كتابه «نظرية الاختيار– علم نفس جديد للحرية الشخصية»، هناك 5 احتياجات أساسية للإنسان يحاول دائماً أن يُشبعها عن طريق سلوكه الإجمالي، تشمل: البقاء، والقوة، والانتماء، والحرية، واللعب أو المرح، بمعنى أنك إذا استيقظت في الصباح وشعرت بالتعاسة، فيمكنك التأكد من أنك لم تُشبع واحداً أو أكثر من هذه الاحتياجات، بحسب جلاسر.
إذن، يمكن للمرء مواجهة الإدمان السلبي، والوقاية منه، بانتهاج وجه آخر لعملية الإدمان، يتمثل في ممارسة الأنشطة والمهام التي تمنحه الراحة والسعادة، وتعزز قدرته على البقاء، وتلبي رغبته واحتياجاته من الرضا عن الذات، والقوة، والانتماء، والحرية، والمرح.
الإدمان الإيجابي بات توصيفاً طبياً لحالة تداوم على أداء نشاط إيجابي لمدة تتراوح من 6 أشهر إلى سنة، دون الاستغناء عنه، أو التهاون في القيام به، بشكل فردي دون الاعتماد على الآخرين، وبصورة سوية وتلقائية.
هذا الإدمان الإيجابي يمارس بعقل واع، وإرادة حرة، وذهن حاضر، ورغبة في المتعة، وسعي للإنجاز، بل ربما يتحول إلى عادة، وعبادة، مثل ممارسة شخص نشاط صلة الرحم بشكل إدماني، هنا يحقق ذاته، ويعزز علاقاته الاجتماعية، ويرضي ربه، ويربح مكاسب عدة روحانياً ونفسياً واجتماعياً.
يجدر الإشارة إلى أن هذا الإدمان الإيجابي قد يضايق البعض، أو قد يكون مثار انتقاد من آخرين، حينما يرون المدمن الإيجابي مستغرقاً في إدمانه، أو مداوماً عليه، لكن عليه عدم الاكتراث لذلك، طالما يحقق هدفه ويرضي ذاته دون إضرار بالآخرين.
ويتسم المدمن الإيجابي بالمرونة، كونه يستطيع التوقف تلقائياً عن أداء هذا النشاط الإدماني إذا تعارض مع جانب مهم من حياته، أو في حالة ظهور أولويات جديدة، تحسن من نوعية وجودة حياته، وتجلب له سعادة أكبر مقارنة بما كان يمارسه في السابق من صور إدمانية إيجابية.
من الحكمة التحرر من الدلالات اللغوية السلبية لتعبير «الإدمان»، الذي يعني سلب إرادة الشخص وإقباله القهري على شيء ما، والتحول إلى بث ونشر صور إيجابية للإدمان، وتعزيز حضورها بين الشباب، وفتح الباب أمام إبداع جديد خارج صندوق الإدمان بمضامينه السلبية وآثاره الخطيرة.
يمكن للمرء أن يصنع من الأزمة شيئاً فريداً، وأن يخرج من دائرة الإدمان السلبي إلى الإيجابي، وأن يحول بوصلة القبح إلى الجمال، وأن يحول دفة الشر إلى الخير.