زارني وفد من علماء الشيشان، وهم: فضيلة الشيخ خوجا أحمد حاج قادريوف، رئيس مجلس علماء الشيشان، وفضيلة الشيخ محمد يوسف محمد صادق، كبير علماء روسيا، والأخ الكريم تركو داودوف، مندوب الإدارة الدينية لمسلمي الشيشان في الخليج، وطلبوا إليَّ أن أتوجه بكلمة إلى أبناء الشيشان، الذين يتخذون العنف والتوسع في القتل وسفك الدماء سبيلاً للوصول إلى أهدافهم، غير مبالين بما يوجبه فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المآلات، من رعاية اعتبارات كثيرة قبل الإقدام على عملهم، فإن الإسلام حرم تغيير المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر منه، ولم يشرع إزالة الضرر بضرر مثله، فضلاً أن يكون بضرر أكبر منه.
ومن ذلك أمْرُ الضحايا الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين الذين يسقطون جراء العمليات التي يقومون بها.
وهذا مما يوجب على أهل العلم والفكر وأهل الرأي والحكمة أن يجادلوا فيه جماعات العنف بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى، وأن يناقشوهم، أو قل: يناقشوا قادتهم وعقلاءهم بالحكمة والمنطق العلمي والشرعي الهادي، وأن يقنعوهم بالحجة البالغة كما فعل حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس مع الخوارج، فرجع الآلاف منهم عن رأيهم اقتناعاً بقوله وأدلته.
ومن الواجب علينا اليوم أن نناقشهم في قضيتين، هما: التكفير، والعنف.
القضية الأولى: قضية التكفير
وهي قضية خطيرة لها جذورها في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولعلها أول قضية فكرية شغلت المسلمين، وكان لها آثارها العقلية والعملية (عسكرية سياسية) لعدة أجيال، ثم لم يلبث الفكر الإسلامي أن فرغ منها، واستقر على ما عليه أهل السُّنة والجماعة.
ظاهرة تحتاج إلى دراسة أسبابها:
وأول ما ينبغي أن أقول هنا: إن هذه الظاهرة –ظاهرة الغلو في التكفير– تحتاج إلى دراسة أسبابها وعواملها حتى نستطيع علاجها على بصيرة.
والدارس المتتبع لأسباب هذه الظاهرة يجد من أبرز أسبابها: قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص الجزئية فهماً سطحياً سريعاً، دون التفقه في المقاصد الكلية، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة دون أهلية كافية، فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشريعة الله وأحكامه، وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل، الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد، هذا مع شدة حرصهم على العقيدة والتنسك.
خطورة التكفير
والذي ينبغي أن نؤصله هنا: أن الحكم بالكفر على إنسان ما حكم جد خطير، لما يترتب عليه من آثار هي غاية في الخطر؛ كالتفريق بينه وبين زوجته، وألا تكون له ولاية على أولاده، وفقده لحق النصرة والموالاة من المسلمين، وألا يغسَّل ولا يكفَّن ولا يصلي عليه، ولا تجري عليه أحكام المسلمين بعد الوفاة، ولا يدفن في مقابرهم.
وأن الإنسان يدخل الإسلام بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن من دخل الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين، أو بقضاء قاض، وقد أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر، وأن كبائر المعاصي تنقص الإيمان ولكنها لا تهدمه، وأن الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله تعالى، وما عداه من الذنوب –صغرت أو كبرت– فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقب به، وأن الكفر في لغة القرآن والسُّنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة.
وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام، إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.
وبهذا يتبين لكل ذي عينين مدى الخطأ الجسيم، والخطر العظيم، الذي سقط فيه الإخوة الذين أسرفوا في التكفير حتى غدوا يكفِّرون الأفراد والمجتمعات بالجملة، معرضين عن كل ما يخالف وجهتهم من نصوص الشرع وأدلته، متذرعين بالتعسف في التأويل، والاستدلال بما ليس بدليل، مخطّئين كل من لا يوافقهم من علماء الأمة وأئمتها في القديم والحديث، زاعمين لأنفسهم أنهم قد بلغوا درجة “الإمام” والاجتهاد المطلق، وأن لهم أن يخالفوا الأمة كلها وما أجمعت عليه سلفاً وخلفاً، وهذا –والعياذ بالله– من العُجب المهلك، والغرور الموبق، والغلو الضار، وليس لهذا مصدر إلا الجهل بالله تعالى، والجهل بالناس، والجهل بالنفس.
لا تكفير لمن يكفّر الناس
ومع هذا كله، لا نريد أن نقع فيما وقع فيه هؤلاء الإخوة المسرفون، فنكفّرهم كما كفّروا الناس، وإني لأعلم علم اليقين أن في هذه الجماعات المتطرفة شباباً مخلصين، لا يريدون إلا وجه الله، والدار الآخرة، ونصرة الإسلام، ولكنهم لم يتحصنوا بثقافة إسلامية أصيلة، وفقه إسلامي عميق، فصادفت هذه الأفكار قلوباً خالية، فتمكنت منها، وأعلم أن عدداً من هؤلاء الشباب تبين له الحق فرجع إليه، كما فعلت جماعات “الجهاد” و”الجماعة الإسلامية” في مصر، و”الجماعة الإسلامية المقاتلة” في ليبيا، وكثير من قيادات جماعات العنف في العالم أجمع، فقد ثابوا إلى رشدهم بعد أن تبين لهم الحق، وتخلوا عن منهج العنف الذي نصبوه لأنفسهم من قبل، وعادوا إلى الخط العام للأمة، وقد أثنينا على موقفهم الشجاع، فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل، وإننا ندعو إخواننا من أبناء الشيشان إلى مثل هذه المراجعات، وإلى ترك السلاح، والمشاركة في بناء وطنهم ورقي أمتهم، داعين الله أن يغفر لهم ما قد سلف، ويصلح لهم ما بقي.
القضية الثانية: قضية العنف
مدى شرعية العنف بالصورة التي يمارسونها ويشهدها الناس، وإنها لا تستند إلى محكمات الشرع لا في نصوصه البيّنة ولا في مقاصده الكلية.
ومدى جدوى هذا العنف لو افترضنا شرعيته، هل غيَّر وضعاً فاسداً؟ أو أقام حكماً عادلاً؟ أو حقق هدفاً من الأهداف الكبرى للأمة؟!
لقد أعلنت جماعات “الجهاد” و”الجماعة الإسلامية” في مصر، و”الجماعة الإسلامية المقاتلة” في ليبيا، وكثير من قيادات جماعات العنف في العالم أجمع، ومن في حكمها مثل جماعة التكفير، والجماعة الإسلامية، والسلفية الجهادية، انتهاء بتنظيم “القاعدة”، أعلنت الحرب على الحكومات القائمة، واختارت أسلوب الصدام المسلح، ولم تكتف بالبيان أو البلاغ أو التربية والتوجيه، أو أسلوب التغيير السلمي بالكفاح الشعبي في الجامعات والنقابات والمساجد، والكفاح السياسي بدخول حلبة الانتخابات، ودخول البرلمان لمقاومة التشريعات المخالفة للإسلام أو لحريات الشعب ومصالحه.
ولما كانت هذه الجماعات لا تملك القوة العسكرية المتكافئة أو المقاربة لقوة الحكومات، فقد اتخذت أساليب في المصادمة تتفق مع إمكاناتها، منها: أسلوب الاغتيال، وأسلوب التخريب للمنشآت الحكومية.
وهذان الأسلوبان يصحبهما في الغالب إصابة مدنيين برآء، ليس لهم في العير ولا في النفير، كما يقول المثل، ففيهم أطفال ونساء وشيوخ، وكثيراً ما ينجو المقصود بالاغتيال في حين يُقتل عدد من المدنيين البرآء غير المقصودين، ومعلوم أن قتل من لا يقاتل في الحرب بين المسلمين والكفار لا يجوز، فكيف يُقتل المسلمون؟ وفي الحديث: “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق”.
كما أن تدمير المنشآت الحكومية إنما هو في الحقيقة تدمير لممتلكات الشعب في النهاية، ومن أساليبهم ضرب السياحة والسياح، وهم قوم مستأمَنون، بلغة الفقه الإسلامي، قد أُعطوا الأمان من قِبَل الدولة التي أمَّنتهم بإعطائهم سمة (تأشيرة) الدخول، فيجب أن يُحترم أمانهم ولا نخفر ذمتهم، ولا يُعتدى عليهم في نفس ولا مال، ولو كان الذي أعطاهم الأمان عبد من المسلمين، فقد جاء في الحديث: “المسلمون يسعى بذمته أدناهم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”.
وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأم هانئ وقد أجارت أحد أحمالها من المشركين: “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”، وقد فصلنا الحديث عن الأمان في دراستنا الموسعة عن “الفقه”، وقد تبين للدارسين والمراقبين لأعمال العنف والمقاومة المسلحة أنها لا تحقق الهدف منها، فلم تسقط بسببها حكومة، بل لم تضعف بسببها حكومة من الحكومات.
كل ما يمكن أن تنجح فيه جماعة العنف في بعض الأحيان قتل رئيس دولة أو رئيس وزارة أو وزير أو مدير أمن أو نحو ذلك، ولكن هذا لا يحل المشكلة، فكثيراً ما يأتي بدل الذاهب من هو أشد منه وأنكى وأقصى في التعامل مع الإسلاميين.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
________________________________________
العدد (1921)، ص32-33 – 23 شوال 1431ه – 2/10/2010م