هناك منذ أكثر من 1400 عام، صعد سيدنا بلال الحبشي فوق الكعبة صادحًا بالأذان بعد فتح مكة: «الله أكبر.. الله أكبر»، مُعلنًا عهدًا جديدًا تتجلى فيه مكة بقدسيتها في رداءٍ جديد وصبغة فريدة، وقد وصل النداء لقلوب وعقول الأفارقة الذين أمسوا يتطلعون لزيارة الأراضي المقدسة وإتمام فريضة الحج.
ففي كل بقعة في الأراضي السمراء يوجد الملبون للنداء العظيم، ومشتاقون للتلبية، مثل المسلمين في كل مكان، لكن الأفارقة يتميزون بطرق تعبيرهم عن هذا الشوق، وبتقديسهم واحتفالهم بموسم الحج.
في هذا التقرير، تتناول «المجتمع» فريضة الحج في الثقافة الأفريقية، ومكانة الحج في قلوب الأفارقة.
رجالًا وعلى كل ضامر
منذ انتشار الإسلام فيها قبل قرون، ظلت القارة الأفريقية ملبية للنداء الخالد، حيث مثّلت فريضة الحج أعظم ما يرنو إليه الأفارقة بعد الدخول في الإسلام، وكان لرحلات الحج تأثير كبير على سكان البلاد الأفريقية لشعورهم بالأخوة الإسلامية والالتقاء بالمسلمين من شتى البقاع.
وفي حين انتشار المذهب المالكي وتشكيله للخلفية الفقهية في عدد من الدول الأفريقية جنوب الصحراء، يؤكد عدد من فقهاء المالكية ضرورة أداء فريضة الحج ولو مشيًا على الأقدام، وخففوا في شرط توافر الزاد والراحلة فأجازوا للحاج العمل بيده لتوفير الزاد خلال رحلته إلى الأراضي المقدسة، أو بمصاحبة الحجاج الأغنياء.
وكان لكلّ رحلة من رحلات الحج في أفريقيا طابعها الخاص، وحظها من الأمن أو الخوف، فكانت رحلة الحج مضنية تتطلب جهودًا كبيرة في سبيل الإعداد والتجهيز لها، وبالرغم من ذلك فقد حرص الأفارقة على أداء الفريضة غير آبهين بما يواجههم في رحلتهم التي قد تستمر لمدة عام.
ولما كانت تتعرض قوافل الحجاج في بعض الأحيان للأخطار وقطاع الطرق وانعدام الأمن، إلى جانب تقلبات المناخ التي كثيرًا ما كانت تتسبب في ضياع القوافل وعطشها وموت أفرادها؛ فقد اعتمد السلاطين على تعيين رؤساء للقوافل وبعض الحرس المزودين بالأسلحة، للحدّ من عمليات النهب والقتل التي كانت تحدث، كما عقدوا معاهدات مع شيوخ القبائل القوية مقابل المال؛ بهدف حماية قوافل الحج والتجارة أثناء مرورها عبر أراضيها.
وكانت قوافل الحج تمرّ بمصر وغيرها من البلاد الإسلامية، فيبقى بعضهم فيها حتى يحين وقت الحج، ما ساعدهم على تعميق أواصر الأخوة الإسلامية مع سكان تلك المجتمعات، والتعرف على أحوالها وطباعها، وتحقيق بعض المنافع، كما أنّ أهل العلم منهم كانوا يهتمون بنشر الإسلام وتعاليمه.
وقد كان السفر للحج أمرًا عظيمًا لدى سكان غرب أفريقيا، وذلك لطول الرحلة والأخطار التي تحف الطريق وما يكتنفها من أحوال جوية متقلبة، أو قطاع الطرق وغزوات الاسترقاق.
ومن أهم الطرق البرية التي كان يسلكها حجاج غرب أفريقيا في قوافل كبيرة «درب الأربعين»؛ الذي يمر بالغرب الأفريقي، ويمر ببلاد الهوسا (شمال نيجيريا وجنوب النيجر حالياً)، ثم ببلاد كانم (تشاد حالياً)، ثم مناطق وداي في شرق تشاد، ثم دارفور في السودان، ويمر بواحة سليمان ليتجه نحو أسيوط ثم البحر الأحمر، ومنه إلى الأراضي المقدسة.
وهناك «طريق السودان»؛ الذي يشبه «درب الأربعين»، لكنه بدل الاتجاه من دارفور نحو الشمال الشرقي، يواصل شرقًا إلى كردفان وحاضرتها الأبيض فالخرطوم، ويتجه شرقاً إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر.
النداء الخالد
تحتل فريضة الحج موقع اهتمام خاص ومتميز في السياق المحلي في المجتمعات الأفريقية، وتنبع تلك الأهمية من سمة القدسية التي ترتبط بها بلاد الحرمين الشريفين في الذاكرة المركزية الأفريقية.
يقول الأكاديمي المالي والمدير التنفيذي لاتحاد علماء أفريقيا، د. عمر بامبا: إن فريضة الحج لها مكانة خاصة عند الأفارقة، فالفلاح الأفريقي المسلم يطمح في أداء فريضة الحج بعد حصاد محصولاته الزراعية، وكذلك من يملك الأغنام في الأرياف يطمح في بيع بعض أبقاره من أجل أداء فريضة الحج، علاوة على من هم ميسوري الحال.
وأشار د. عمر، في حديثه لـ«المجتمع»، إلى مدى الالتزام الصارم بضرورة أداء هذه الفريضة ولو مشيًا على الأقدام، وقد مشى كثير من الأفارقة لأداء فريضة الحج قديمًا، حيث تملكت عاطفة الشوق من الأفارقة المسلمين لتلك الأماكن المقدسة درجة تفوق الوصف.
كما أضاف د. عمر أن المشاهدة المباشرة للأماكن المقدسة وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لها دور في ترسيخ المعتقدات الإسلامية لدى الأفارقة، وهذا ما يجعل من حَظي بزيارة الحرمين والمشاعر المقدسة في رحلة الحج يحتل مكانة كبيرة في الوسط الاجتماعي.
فبمجرد أن يعلم الشخص بوجوده ضمن قوائم الحجيج لهذا العام؛ يشعر بفرحة غامرة غير مسبوقة، وينتشر الخبر سريعًا بين معارفه ويتناقله الكبار والصغار، ويتلقى التهاني حتى قبل أن يستكمل إجراءات التسجيل.
وأوضح الأكاديمي المالي أن وداع الحاج واستقباله من العادات الإيجابية التي ما تزال موجودة حتى الآن في المجتمع الأفريقي، ومنها الاجتماع في بيته لوداعه في جو من الفرح، حيث يجتمع كل أبناءه وإخوته وأقربائه وأصهاره وأصدقائه وجيرانه لمشاركته في فرحة العمر، وتوصيته بالدعاء لهم في بيت الله الحرام وعند الوقوف بعرفة.
وفي السياق نفس، يقول المحاضر بجامعة ماكيريري والأمين العام لجمعية المدارس القرآنية بأوغندا د. هارون جمبا: إن الاحتفاء بمن سيذهبون لحج بيت الله الحرام يبدأ بالإعلان عن السفر في الإذاعة من قبل الحجاج أنفسهم والحملة التي سيسافر معها، ثم يجتمع الأهالي والأقرباء والأصدقاء في بيت الشخص الذي سيسافر إلى الحج ويدعون له أن يبارك الله في حجه وأن يعود إليهم سالمًا.
وأضاف د. هارون أن من العادات لتوديع المسافر إلى الحج؛ الاجتماع في بيته والدعاء له وقراءة القرآن؛ خاصة سور «يس»، و«الرحمن»، و«تبارك»، و«الشرح»، ثم قراءة بعض الأدعية المأثورة، والدعاء للأحياء والأموات، ثم بعد ذلك يتم توزيع الطعام على الحضور.
وأشار إلى أن حملات الحج تقوم بإعداد دروس خاصة للمسافرين يعلمونهم كيفية أداء جميع مناسك الحج، وفي يوم السفر يذهب الأقرباء معه إلى المطار لتوديعه، ويضربون الدفوف حتى إقلاع الطائرة.
الحاج والمكانة العظيمة
عودة الحاج من بلاد الحرمين لها مذاق متميز في المجتمع الأفريقي، ولدى الأفارقة الكثير من العادات والتقاليد الخاصة باستقبال الحاج، التي تنبع من تقديرهم لهذا الزائر للأراضي المقدسة.
فقد أوضح د. جامبا، في حديثه لـ«المجتمع»، أن المسلمين في أوغندا خاصة وأفريقيا عامة يتطلعون بشغف وحب شديد لإتمام فريضة الحج، ويستغرقون الكثير من الوقت للادخار لهذا السفر لأنها عبادة العُمر.
وأردف أن القادم من رحلة الحج ينظر إليه كأنه مولود جديد لا ذنب له، ولا يُتوقع أن يصدر منه شيء من نواقص الإسلام، لأن الحاج هو الطاهر النزيه الذي زار البيت العتيق وزار الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلا يتصرف بشكل غير لائق.
وعن عادات المسلمين في أوغندا لاستقبال الحجيج بعد عودتهم، يروي د. جامبا أنه يتم عمل مناسبة كبيرة جدًا في القرية فرحة بعودة الحاج، ويزفونه بالدفوف ويلفون به البلدة، وينشدون «طلع البدر علينا»؛ النشيد المأخوذ من اليمنيين الذين أتوا بالإسلام إلى أوغندا.
وأردف د. جامبا أن الحاج قد يقضي أسبوعًا كاملًا وهو ينام في غرفة الاستقبال ليُجالس الضيوف ويدعو لهم ويحدثهم عن السفر ابتداءً من مغادرته البيت حتى رجوعه إلى المنزل.
من الجدير بالذكر أن يوم قدوم الحاج الأفريقي تأخذ مراسم استقباله جوانب متعددة، فيها الاجتماعي والثقافي، فضلًا عن الطابع الديني المعهود، فبحسب د. عمر بامبا قد يستغرق الإعداد لهذه المناسبة أسابيع قبل وصول الحاج، لكثرة المظاهر الاجتماعية المصاحبة لهذا الاحتفال، وكلٌّ يحتفل حسب العادات والتقاليد الموجودة في بلده ومحيطه.
ومن المفارقات العجيبة أن الاهتمام البالغ بتلك الترتيبات قد يؤخر الحاج ويحبسه داخل بيته أيامًا، بل أسابيع، ويمنعه من حضور صلاة الجمعة قبل الاحتفال بقدومه من الحج.
ويروي د. بامبا أن من المظاهر الملازمة للاحتفال ارتداء زي موحد لأقارب ومعارف الحاج، واستقباله على مشارف المدينة أو القرية بحفاوة كبيرة، ويتوسط الحاج هذا الحشد في موكب يتقدمه فرقة المداحين والمنشدين، وتمتزج أصوات الدفوف والأبواق في جو من المرح والفرح والابتهاج بعودة صاحبهم من بلاد الحرمين، وهذا الحشد الشعبي يكون على موعد مع وليمة خاصة بعد الجمعة في بيت الحاج.
وأضاف أن في بعض المجتمعات الأفريقية تُخَصص الصفوف الأولى في المساجد للحجاج الجدد، كما تخصص فترة بعد الصلاة للقاء الحجاج وإعطاء نبذة عن مشاهداتهم في الأراضي المقدسة ورؤيتهم للعرب وأهل مكة، والانطباعات التي تركتها عندهم تلك الزيارة.
وختامًا.. فإن فريضة الحج رغم شمولها على تلبية النداء الخالد وأداء الفريضة، فإنها جلبت الكثير من الخير إلى أفريقيا، ورسخت معاني الإخاء والتلاحم بين جميع المسلمين؛ على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم.
يقول المناضل الأفروأمريكي مالكوم إكس عن رحلته إلى الحج: خلال الاثني عشر يومًا التي قضيتها في العالم الإسلامي، أكلت من إناء واحد وشربت من كأس واحدة ونمت على سجاد واحد وأنا أعبد ربًا واحدًا مع مسلمين بيض، وجدت في إخلاصهم الإخلاص نفسه عند المسلمين السود القادمين من نيجيريا والسودان وغانا.. وأذكر ليلة نمنا في مزدلفة تحت السماء واكتشفت أن الحجاج المنتمين إلى كل أرض ولون وطبقة، الموظفين السامين منهم والمتسولين على السواء، كلهم يُغطّون بلفة واحدة.