ها هي أرض الحرم قد ازَّينت بوفود الحجيج الذين هوت قلوبهم إليها، فلبوا نداء ربهم جل جلاله، وتركوا الدنيا بزخارفها وشهواتها، واتجهوا إلى ربهم شُعثًا غبرًا يرجون رحمته ويخافون عذابه، ارتفعت أصواتهم بالتلبية والدعاء، هانت عليهم كل المشاق؛ ليقفوا بين يدي الواحد القهار في حرمه الذي جعله مثابة للناس وأمنًا.
الكل يرجع إلى الحرم ليحط رحاله بين يدي الله طالبًا الصفح والمغفرة راجيًا الثواب.
الكل يضرع للرحمن.. الكل يناجي مولاه..
ما أعظم هذا الموقف وأجلّه!
والمسلم الذي يقف أمام هذه الشعيرة العظيمة، التي هي أعظم مناسك الحج «الوقوف بعرفة»(1) لتتراءى له بعض الخواطر والمعاني التي يود أن يسجلها:
أولاً: عرفة مظهر التوحيد
نعم عرفة مظهر التوحيد لله؛ فكل من في الموقف يناجي إلهاً واحدًا، لا يعدل معه أحدًا، ولا يتقرب بعبادة لأحد سواه.
لذلك كانت التلبية والنداء صادعة بهذا؛ الكل يرفع بها صوته، ويلهج بها لسانه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»(2).
عرفة مظهر التوحيد في عالم الشهادة، وكذلك كان من قبلُ في عالم الغيب؛ ففي عرفة أخذ الله الميثاق من بني البشر على ألوهيته، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بـ(نعمان) -يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها, فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قِبلاً قال: ﴿ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ (الأعراف: 172-173)»(3).
ثانيًا: طريق الرسالات واحدة
مناسك الحج منذ أن رفع أبونا إبراهيم عليه السلام قواعد البيت والكل يسير على هديه، ويسلك دربه، ولا يحيد عن طريقه إلا من سفه نفسه، وكل الأنبياء صلوات الله عليهم عرفوا لعرفة قدره، وجعلوا هذا اليوم علمًا للتوحيد، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»(4).
ثالثًا: موضع الدنو والمباهاة
يظهر الحجيج يوم عرفة في أكبر تظاهرة توحيدية لله الواحد الأحد، وهذه التظاهرة موضع مباهاة لله تعالى أمام ملائكته، بل إنه كرامة لهؤلاء الحجاج يعتق من النار أكثر ما يعتق في أي يوم آخر، وقد عبر عن ذلك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء»(5).
وإنه جل وعلا ليدنو من أهل الموقف دنوًا يليق بكماله وجلاله ناشرًا البركة والغفران والمسامحة، فلو علم الخلق أي بركة وأي خير تتنزل عليهم لما تركوا هذا الموقف طوال حياتهم.
رابعًا: يوم غفران الذنوب
أي شيء يتمناه المرء أكثر من أن يحُط الله عنه سيئاته وأوزاره التي ناءت بها كواهله، وأثقلته عن السير قُدمًا لله، وإذا كانت الفرصة سانحة لغفران الذنوب، فالعاقل لا يدعها تفوته، بل يغتنمها، فما يضر المسلم غير الواقف بعرفة أن يصوم هذا اليوم تقربًا لله؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية»(6).
هذه أيام نفحات، والكل يناله الخير والبركة من رب رؤوف حليم غفور رحيم، يتفضَّل على الحاج فيغفر له ذنبه، ويعود أدراجه كيوم ولدته أمه⁷، ويتفضَّل على غير الحاج فيكفر عنه سيئات عام مضى وعام آت، أي فضل هذا من ربنا جل جلاله؟!
خامسًا: موضع استجابة الدعاء
تُفتح المغاليق بالدعاء، والضر والنفع بيد الله، ومن يعطي ويمنع هو الله الواحد الأحد، فإذا علمنا ذلك، فلنُقبل عليه سبحانه بالدعاء والتضرع، ولنطلب منه ما نريد من أمور الدنيا والآخرة، وما ذلك عليه بعزيز، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة»(8).
سادسًا: اليوم المشهود
يوم عرفة يوم يشهده العالم بأسره فيرى اجتماع المسلمين في صعيد واحد، لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، فيرى عزة الإسلام وعزة المسلمين.
وكذلك تشهده الملائكة في السماء؛ فهذا أكبر اجتماع تعبدي لله جل وعلا على مدار العام، يرى الملائكة هؤلاء الناس الذين سالت دموعهم خشية من ربهم، وندمًا على ذنوبهم، وطمعًا في استجابة دعائهم، وعندها تتصل الأرض بالسماء؛ فالكل يسبح بحمده، كل المخلوقات تلجأ لمن خلقها ورزقها ويسر لها سبلها.
ألا يستحق أن يكون هذا اليوم يومًا مشهودًا؟ بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر»(9).
سادسًا: يوم دحر إبليس
إن الصراع بين الشيطان والإنسان قائم على أشده، لا يفتر فيه الشيطان ولا يضعف أبدًا؛ جعل إبليس إضلال بني آدم غايته الكبرى، وأقسم على ذلك قسمًا لم يحنث فيه أبدًا.
والإنسان بضعفه يقع في أحابيل الشياطين، لكن الله جعل له المخرج والسبيل؛ فبتوبته ورجوعه إلى ربه وبغفران الرب للذنب يغتاظ إبليس أشد الغيظ، ويرى أن عمله يذهب سدى، وقد صوَّر لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حالة إبليس فقال: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلاَ أَدْحَرُ وَلاَ أَحْقَرُ وَلاَ أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ»(10).
هذه بعض الخواطر التي فاضت علينا، ونهيب بالجميع أن يقف عند هذا الحدث الجلل ليأخذ منه العظة والعبرة ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ (ق: 37).
_____________________
(1) أخرج أحمد في «مسنده»، ح(18774) عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَعْمَرَ الدِّيلِيَّ قال: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ»، ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلاً خَلْفَهُ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِنَّ، وقد صحح إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط.
(2) أخرجه البخاري في «الحج»، باب: «التلبية»، ح(1549) عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
(3) أخرجه أحمد في عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ح(2455)، وقال الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين غيرَ كلثوم بن جبر، فمن رجال مسلم، ووثقه أحمدُ وابنُ معين، وذكره ابنُ حبان في (الثقات)، وقال النسائي: ليس بالقوي. ورجح الحافظ ابنُ كثير في (تفسيره) وقفه على ابن عباس.
(4) أخرجه الطبراني في «الدعاء»، ح(874) وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة»، (4/7).
(5) أخرجه مسلم في «الحج»، باب: «فِي فَضْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ»، ح(1348) عن عائشة رضي الله عنها.
(6) أخرجه أحمد في حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، ح(22535)، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح.
(7) أخرج البخاري في «الحج»، باب: «فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ»، ح(1521) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
(8) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى»، (4/284) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع»، ح(1102).
(9) أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين»، ح(1680) عن أبي مالك الأشعري، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود».
(10) أخرجه مالك في «الموطأ»، (1/422)، ح(944) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، وضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب»، ح(739).