دائما ما يحرص أهل العلم أن يقدموا التقرير على نقد أي كلام مخالف، وذلك التزامًا لتراتب علمي وهو أن معرفة الحق هي السبب الفاعل والأهم في معرفة الباطل، والنموذج الذي يكثر وجوده عند كثير من غلاة التجريح الآن من محاولة نقض كل فكرة دون التأسيس لأي شيء مقابل لهي دالة على شيئين، الأول: عدم إرادة الهداية لمن ينقد، فإنه لم يبين له الحق وإنما فقط شككه أو حتى هدم ما زعم أنه باطل، وحتى لو كان المنقوض باطلًا فلن يخرج منه صاحبه إلا إلى باطل آخر، فلا وجود لحق يدعوه إليه، والثاني: الغرض الحقيقي من النقد عند هؤلاء وهو أنهم يريدون أن يقوموا ويعلوا على أنقاض ما ينقدوهم لا أن يُقِيموا بناءًا صحيحًا قويًا له أسس فيطبقوه في أنفسهم ويدعوا الناس إليه، ولذا لم يلتفتوا إلى التقعيد والتأصيل والتقرير وإنما فقط إلى هدم بناء المخالف ليظن المعاين لهم أن عندهم شيئًا ليس عند مخالفهم مثله!
أصبحت سمة النقد للنقد حالة مستشرية، حتى أنك لتجد مواقع كاملة وصفحات كثيرة ودعوات ودعاة لا يلفظون بتأسيس قط، بل إن كل كلامهم نقد لغيرهم سواء بالحق أو الباطل، حتى أني وجدت أحدهم يتناول كتابًا من أهم الكتب قد بعض أهل العلم سموه (كتاب القرن) لاعتبار مؤلفه وزمن التأليف وهو كتاب “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين” لشيخ الإسلام في الدولة العثمانية مصطفى صبري وبعد أن قرأ مجلداته الخمس فلم يذكر منها إلا خمس مواضع كلهم مخالفات لما عنده (وهو محق في أكثرها) لكنه لم يذكر فائدة واحدة من قراءته الكتاب -على كثرة الفوائد ولا ريب- فلا تقع عينه إلا على ما يعيب، وآخر ناقشه أحدهم فظهرت له حجة قاطعة في ورود الخلاف فيما ظنه قطعي فلم يُسلِّم بخطئه بل ذكر أن محصي روايات المخالفين قد وقع في غلط في مسألة أخرى -لا علاقة لها بما نذكر- ليبرر عدم الأخذ عنه فيما نقل!، وثالث دافع عن فكرة النقد دون بناء وتأسيس بأن أكثر من غلطوا لم يعطوا النقد حقه فلذلك يتعين النقد دون غيره!، ورابع لم يقرأ كتابًا تأسيسيًا واحدًا في موضوع يكتب فيه محتجًا بهدايته وضلال مخالفه وأن لا غيبة له ليعطي لنفسه الحق في الاستطالة بالجهل!، وإن أردت إحصاء المآسي في جهل البعض بالأصول والالتفات إلى كتب الردود والمناظرات وما شابه لضاقت بذلك مجلدات والله المستعان.
يظن البعض أن التخلية التي تكون قبل التحلية حالة دائمة يحق أن يستغرق فيها الإنسان عمرًا كبيرًا، بل لا يضن بعضهم بعمره كله في سبيل هذا اللا شيء!، ويظنون مشروعية ذلك محتجين بفعله -صلى الله عليه وآله وسلم- من دعوة الناس ثلاثة عشر عامًا إلى التوحيد دون غيره من الفرائض، وهذا فهم غلط، فالحاصل في التخلية التي أقامها -صلوات ربي وسلامه عليه- أنها مبدأ يكون بنزع الباطل من القلب والاستسلام للحق ثم أتبعه ببناء عقدي وعملي، لا أن يجلس المسلم دون أن يبني نفسه عقديا وعمليا لداعي النزوع عن الباطل!، فلم يقل الله -جل جلاله- ورسوله -صلوات الله عليه- أن اجتناب الأوثان من القلوب والأعمال مانعًا من فهم القرآن والعلم عن الله والجهاد به ودعوة الناس ثم فعل الفرائض والنوافل وغير ذلك مما أمرهم الله تعالى به، فكلما ازداد المسلم من البناء الحق ازداد في نفس الوقت من هدم بناء الباطل سواء في قلبه أو عمله، وهذا ما يجب أن يكون لا أن يقعد الإنسان عن تعلم الحق وتفاصيله بدعوى نقد الباطل، فهذا السلوك لن يقيم حقًا ولن يهدم باطلًا قط، بل سيتشبع به صاحبه من انتفاش كاذب كبالون هواء لا يحتاج أكثر من إبرة كي ينفجر وتتناثر أجزاؤه، وهذا حال الفتن التي تزعزع هؤلاء الذين لم يبذلوا في إقامة صرح الإيمان في قلوبهم وأعمالهم بالعلم والصبر عليه بل أقاموا على الملاسنات والمجادلات والمناظرات التي لا تنفعهم ولا تنفع غيرهم، والله الهادي إلى سواء السبيل.