عندما كنت أرى دماء الشهداء الطاهرة، والدمار الذي حل في مخيم جنين من قبل جيش الاحتلال الصهيوني كنت أستشعر بنفس تفاصيله في حروبه الشرسة على غزة المحاصرة هذا يجعلنا جميعاً نجزم أن فلسطين المحتلة هي كل ذرة تراب بكل مدنها وشوارعها العتيقة، وأشجارها المعمرة، وزيتونتها المباركة، وأحيائها وأذقتها القديمة.
وحينما تشتكي جنين فإن قلب القدس ينزف دماً، وخاصرة غزة تتألم، وحيفا ويافا واللد والرملة وبئر السبع والناصرة تبكي وجعاً مبتهلة بدعاء النصر والتمكين، ففلسطين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (رواه البخاري).
“أم جنين” والدة الشهداء
حينما كنت أنظر لعيون أمهات الشهداء في جنين كنت أرى بكل ألم ملامح وجه والدتي رحمها الله تعالى حينما استشهد شقيقي فادي فكانت الملامح ذاتها، والأمر أصعب من كلمات تكتب ودموع تنهمر، وليس بالهين الذي يظنه البعض؛ بل ويتطاول به الأقزام حينما يزعمون بالقول “نساء فلسطين يلقين أبنائهن للموت”.
الصاروخ الذي يستهدف جسد أبنائهم هو ذاته يقذف حرقة في قلوبهن، لكن الله تعالى برحمته يربط على أفئدتهن صبراً جميلاً طيباً يجعلهن مؤمنات بعدالة قضيتهن، وأن فلسطين هي عقيدة المسلم، ومن يتخلى عن ذرة تراب فلسطين فعليه أن يعيد النظر إلى نفسه فالأمر أكبر من مجرد أرض وطين؛ بل هي عقيدة ودين.
والذي كان يطمئن أفئدتهن الصابرة قول الله عز وجل : “وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ” (آل عمران: 169/170).
وكل شهيد كانت جنين والدته؛ بل كانت فلسطين أمه التي حملته في أحشائها، وحملته على أكتافها في كفنه الأبيض الذي اكتسى بحمرة دمه الطاهرة.
فداء للمقاومة
ورغم محاصرة المخيم وقصفه بصواريخ طائرات الاحتلال وصعوبة الموقف، إلا أن القلب واحد في دعمه لشباب جنين المقاوم فالروح والمال ترخص في سبيل الله تعالى في حماية الأنامل الطاهرة المباركة.
ومن المواقف الجميلة التي أكدت ذلك حينما ترك فلسطيني من جنين ورقة داخل بيته قبل نزوحه منه أنه يسمح للمقاومة الدخول فيه والاحتماء خلف جدرانه حتى وإن أدى الأمر إلى تدميره من قبل المُحتل، وترك لهم مبلغاً من المال.
هذا البيت الذي تخلى عنه صاحبه هو لا يملك غيره، وذلك المال الذي تركه الذي يقارب (200) دولار هو كل ما يملكه قدمه حباً ودعماً للمقاومة في سبيل الله تعالى تطبيقاً لقول الله تعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ” (التوبة: 20).
هذا الرجل فعل ذلك في سبيل الله تعالى، وكانت من خلفه زوجته التي أيدت فعله فهي تؤمن بأن كل مقاوم هو ابنها.
أمانة مقاوم
ومن الأشياء الجميلة التي تزينت بها أخلاق المقاومة أن أحد رجالها أراد أن يشرب ماء فوجد (سوبر ماركت)، ولم يتواجد في المكان غيره فدفع مقابل ما أخذه فكانت خشيته من الله عز وجل حاضرة في هذا الموقف رغم القصف الذي كان يلقى على رأسه، فهذا يؤكد أن هذه المقاومة قد تربت على موائد القرآن في بيوت الله، وكانت من خلفه أم أحسنت تربيته على ذلك في حثه على الحلال بعيداً عن الحرام.
جنين لم تجُع
ومن المواقف الجميلة أن صاحب مخبز في مخيم جنين رغم القصف إلا أنه بقى ساعات طويلة في مخبزه يُعد الخُبز، وبعد تجهيزه وضعه أمام المخبز بالمجان حتى لا يجوع أهل المخيم.
وحينما تسأل من علم هذا الرجل هذه الأخلاق الطيبة في تلك الظروف الصعبة بالتأكيد ستكون الإجابة فهمه لدينه وإيمانه بعدالة قضيته، وخلف ذلك والدته التي أرضعته منهج الإسلام العظيم، وحبه لفلسطين، وأن كل إنسان يستطيع أن يقدم من أجل فلسطين ولو رغيف خبز.
كيف انتصرت؟
استخدام الاحتلال الآليات العسكرية الحديثة، والأسلحة، والطائرات الحربية المحرمة دولياً كان أكبر بكثير من مساحة مدينة جنين التي تبلغ ( 583 كم2)، ورغم ذلك انتصرت ومرغت أنف الاحتلال بوحل الهزيمة، هذا يجعل الكثير يسأل عن أسباب النصر التي غيرت معادلة ميزان القوة وهزمت صاحب مقولة (الجيش الذي لا يهزم).
ومن الممكن أن نشير إلى أهم أسباب هذا النصر المُبين:
1- الإيمان العميق لأهل جنين بعقيدة أرض فلسطين، والتنازل عنها هو التنازل عن العقيدة الإسلامية الصحيحة.
2- المرأة كانت عامل القوة في تحقيق النصر من خلال ثباتها ومساندتها.
6- تشجيع الأمهات أبنائهن على حضور موائد القرآن التي أنجبت جيلاً نضج مبكراً في فهم قضية التحرير.