يدَّعي هؤلاء الموتورون أن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا أنكر وجود الله تعالى؛ لأن إثبات وجود الله سبحانه يعني اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وهذا مخالف لحرية الإنسان، فإذا قُضي على فكرة وجود الله ثبتت الحرية التامة للإنسان.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
هذه الشبهة تكشف عن الوجه القبيح لهؤلاء الموتورين الذين يتمسحون في الدعوة إلى إطلاق الحريات للإنسان ليحقق ذاته، ولكنهم في الحقيقة يدعون إلى الإلحاد ونفي وجود خالق لهذا الكون، وللرد على هذه الشبهة نريد أن نعرف أولاً موقف الإسلام من الحرية الحقيقية للإنسان.
موقف الإسلام من الحرية
لقد عاش المسلمون الأوائل المعنى الحقيقي للحرية، وهذا ما نلمسه في القول المشهور لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»، وفي وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا».
لقد جاء الإسلام في زمن كان الناس فيه مستعبدين؛ فكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، فأقر لهم حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، وهذه أهم الحريات التي يبحث عنها البشر.
جاء الإسلام وهو دين، فأقر الحرية الدينية؛ حرية الاعتقاد، فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني جاء في سورة «البقرة» قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).
إن إقرار الإسلام لمبدأ الحرية لم يأت نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما كان مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين.. جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية، بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين، ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد أيضًا بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس، كما قال اليهود: (آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (آل عمران: 72)؛ آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا.. فتركناه، أو آمنوا اليوم واكفروا غدًا.. أو بعد أسبوع.. شنِّعوا على هذا الدين الجديد..
أما حرية التفكير، والنظر؛ فقد جاء الإسلام يدعو الناس إلى النظر في الكون، وإلى التفكر قال تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)، (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101)، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
وقد رفض الإسلام منهج هؤلاء الذين يتبعون الظنون والأوهام فقال تعالى: (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28).
كما رفض سلوك أولئك الذين يقولون يوم القيامة: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: 67)، وحمل على أولئك الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، وحمل على المقلدين والجامدين ودعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، فقال تعالى: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).
واعتمد في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ولهذا قال علماء الإسلام: «إن العقل الصريح أساس النقل الصحيح»، العقل أساس النقل، فقضية وجود الله تعالى قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت بإثبات العقل أولًا، فالعقل هو الذي يقول: هذا رسول قامت البيّنة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، ويقول العقل: هذا كذَّاب وهذا دجال ليس معه بيّنة، وليس معه معجزة، فهذا هو احترام الإسلام للعقل، وللفكر.
ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية، الحرية العلمية، وجدنا العلماء يختلفون، ويخطّئ بعضهم بعضًا، ويرد بعضهم على بعض، ولا يجد أحد في ذلك حرجًا.
وحرية القول والنقد أيضًا أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية؛ إذ جعل القول والنقد أمرًا واجبًا، فقال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان: 17).
جاء الإسلام فأباح للناس أن يفكروا، بل أمرهم أن يفكروا، وأباح للناس أن يعتقدوا ما يرون أنه الحق، بل أوجب عليهم ألا يعتنقوا إلا ما يعتقدون أنه الحق، وأوجب على صاحب العقيدة أن يحمي عقيدته ولو بقوة السلاح، وأمر المسلمين أن يدافعوا عن حرية العقيدة حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، بحد السيف، وبحد السلاح تحمى الحرية، ويمنع الاضطهاد؛ حتى لا تكون فتنة، قال تعالى في أول آية نزلت في شرعية القتال والجهاد في الإسلام: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (الحج: 39)، ثم قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج: 40)(1).
لولا أن الله تعالى قيض المسلمين بسيوفهم يدافعون عن الحرية، وعن الحريات العامة، ما استطاع أحد أن يعبد الله في الأرض، وما وجدت كنيسة، ولا بيعة ولا مسجد، ولا أي معبد يذكر فيه اسم الله كثيرًا، فهذا هو الإسلام الذي جاء بهذه الحريات.
الحرية المطلقة التي يريدها هؤلاء
إن الحرية المطلقة التي يريدها هؤلاء لا وجود لها إلا في خيالهم المريض؛ إذ لو كان الإنسان حرًّا حرية مطلقة لتحكَّم في مسيره ومجريات أحداثه، وكان عالمًا بكل ما يحيط به من أحداث، بل لكان هو المتحكم والمخطط لمسيرها في الحياة، ولما كان هناك ما يقع على الإنسان غير ما يبتغيه أو يرغب فيه، بل يتمنى ألا يقع، ومما يدل على كذب هؤلاء من أن الإنسان ليس في حاجة إلى وجود الله تعالى، أن الإنسان وهو يمارس أنشطة الحياة تنتابه الأقدار:
1- أحداث تقع به فيفجؤه، بل يفجعه نزولها به دون أن يدور بخلده –قط– أنها ستصيبه أو ستلُم به، مثل: النوازل والكوارث التي قد تصيب الإنسان وهو بطريق الحياة دون سابق إنذار، وما يستطيع عاقل أن يقول: إن الإنسان هو الذي وضعها بنفسه أو أنزلها بساحته بناء على حريته المطلقة.
2- تنتابه أحداث أخرى لا يتمناها لنفسه –قط– لكنها تقع به، مثل: ضعف البصر، انحناء الظهر، عجز القدمين عن حمل الجسم، تجاعيد الوجه، فلو كان الإنسان سيد أفعاله لما أوقع بنفسه ما تكرهه نفسه.
3- لو كان الإنسان هو الخالق لنفسه لكان عالمًا بتفاصيل حياته وأسباب وجوده، أو الغاية التي يصير إليها بعد رحيله.
4- هل يعقل أن يلغي الإنسان وجود الله لمجرد إثبات حريته الكاملة، وهل هذه إلا حرية بهيمية شيطانية لنيل مقصوده والتسلط على حقوق الآخرين(2)؟
إننا نسأل هؤلاء سؤالًا بسيطًا: هَبْ أن أحدكم اشترى جهازاً كهربائياً وكتب له صانعه طريقة تشغيله (الكتالوج)، فهل معنى ذلك أن الصانع تدخل في حرية المشتري، أم أنه أراد أن يُعرفه الطريقة المثلى للاستفادة من الجهاز؟!
إن الحرية المزعومة التي تقصدونها هي بالفعل تتعارض مع الاعتراف بوجود الله تعالى؛ لأنها حرية الزنى وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، حرية إفساد النفس والأخلاق، حرية إفساد الضمير، حرية الشذوذ..
_________________________
(1) موقع العلامة يوسف القرضاوي يرحمه الله، بتصرف.
(2) رسالة: الشرك في القديم والحديث، أبوبكر محمد زكريا، (2/ 750-751)، بتصرف.