تعد الهجرة حالة حضارية وتاريخية ارتبطت بوجود الإنسان على ظهر الأرض، ويمكن وصف الإنسان بأنه «الكائن المهاجر» رغم أنه يفضل الاستقرار حول أماكن المياه والزروع والثروات الطبيعية بشكل رئيس، فإن علماء الأناسي رصدوا وحللوا حركة الهجرة الإنسانية عبر التاريخ، ووجدوا أنها أحدثت تطورات ديمغرافية على شكل الأرض والمجتمعات والثقافات، بالطبع إن هجرة الإنسان أقل في دورتها الزمانية من هجرة الطيور والكائنات البحرية لكنها الأكثر تأثيرًا في حركة الأرض والمجتمعات والثقافات.
من خلال مراقبة أسلوب القرآن في التحدث عن الهجرة، وُجد أن الهجرة قانون فلسفي واجتماعي عميق، ويظهر ذلك من خلال تعبيرات القرآن وأوامره المستمرة بالهجرة -وهي أوامر عامة لكل المؤمنين– فكل الحضارات في العالم سواء آخرها وأحدثها –حضارة أمريكا الحديثة– أو أقدم المدنيات التي نعرفها وهي الحضارة السومرية، كلها وجدت على أثر الهجرات؛ أي أن المجتمع البدائي ظل بدائيًا طيلة بقائه في أرضه، وبعد أن هاجر إلى أرض ثانية، وأقام فيها تمكن أن يتحضر وتغيرت حالته جذريًا، فعلى هذا فإن كل الحضارات كانت وليدة هجرة المجتمعات البدائية(1).
موارد الهجرة في القرآن
انشغل القرآن بمسألة الهجرة كثيرًا، سواء فيما يتعلق بتاريخ الأنبياء الذي يمكن أن نعتبره كله تاريخ هجرة، أو ما يتعلق بالأتباع من المؤمنين؛ أي الذين آمنوا، وهو ما يجب في تجديد درس الهجرة البحث فيه وتحليل عوامله وأسبابه ومقاصده، ويمكن تصنيف الهجرة في القرآن إلى خمسة أنواع أساسية يمارسها الناس عمومًا والأنبياء والذين آمنوا بصفة خاصة، هذه الأنواع الخمسة هي:
1- الهجرة المتعهدة أو الملتزمة (الهجرة من المحيط الفاسد إلى المحيط السالم حتى يمكن العودة إليه ثانية من أجل التغيير): لذلك فهنا تأتي مرحلة الذين «آمنوا» وبعدها تأتي مرحلة الهجرة، الذين «هاجروا» وهذه المجموعة المهاجرة هي التي تستطيع أن تعمل من محيط آمن حتى تصل إلى مرحلة «الجهاد» ومن متطلباته الثبات والقوة.
2- الهجرة الحرة: في ظروف معينة وخاصة تظهر أمور من شأنها أن تعرقل مسيرة العودة للمهاجرين مؤزرين بالنصر ومن تلك الظروف، ظروف المحيط السياسي أو الاجتماعي أو الفكري، وحتى من الممكن أن يكون الظرف ظرفًا عشائريًا، وهنا تصبح الهجرة هجرة غير ملزمة بالعودة والنصر، وقد تكون هجرة فردية أو جماعية؛ وهي الخروج من المحيط الفاسد من أجل الحفاظ على العقيدة والفكر والإيمان، فقصة أصحاب الكهف هي قصة لشخصيات مفردة كانوا يعيشون في مجتمع فاسد ومحيط غير ملتزم؛ فأرادوا الخروج من ذلك المحيط والفرار بدينهم والمحافظة على عقيدتهم، فلم تكن هجرتهم هجرة من ورائها رجوع وعودة حافلة بالنصر والتغيير، بل كان القصد من الهجرة النجاة والحفاظ على الدين، وقد فضلوا تلك الهجرة على ذلك البقاء المصحوب بالذلة والهوان.
3- الهجرة العلمية: إن إحدى خصوصيات تاريخ العلم هي الهجرة في سبيل طلبه، ففي فترة من الزمن وحتى عصر النهضة الفكرية كان العلم منحصرًا ومقتصرًا على زوايا المكتبات والغرف.
وقد أعطى القرآن الكريم للهجرة نظامًا وخاصية لمطالعة الأمور التاريخية والاستفادة منها، فطلب من العلماء أن يهاجروا ليكسبوا العبرة والعلم عند مطالعتهم للأقوام وآثارهم حيث الآية الشريفة تقول: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، وفي آية أخرى جاءت تحث على الهجرة والسفر من أجل المطالعة والاكتشاف: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) (الرُّوم: 9)، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) (الرُّوم: 10)، فالهجرة التي يدعو إليها القرآن هي هجرة المطالعة والاكتشاف العلمي، وليست هجرة النزهة وقضاء الوقت، والنقطة المهمة اللافتة للنظر في هاتين الآيتين أن علة زوال المجتمعات ونهايتها هي الظلم والفساد والأعمال السيئة، وليس الجبر التاريخي أو الصدفة أو إرادة السماء أو عوامل أخرى خارجة عن إرادة الإنسان.
4- الهجرة الاقتصادية: هناك آيتان قرآنيتان: (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (النحل:41)، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الحج: 58) صرحتا بأن المهاجرين سوف يحصلون على غنائم كثيرة، وهذه الغنائم التي يحصلون عليها هي أمور معنوية ومادية، ولم يكن هذا الأمر ليتم إلا بواسطة الرعاية والفضل الإلهي، وهذا الفضل هو النعم المادية التي يحصل عليها الإنسان من الهجرة وتصبح الهجرة عاملًا اقتصاديًا مؤثرًا في تقدم الحياة، وهذا العامل أصبح اليوم واضحًا عند الأوروبيين، حيث خرجت أوروبا من حدودها إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا (العالم الجديد)، وكل هذا وراءه عامل ودافع واحد وهو الهجرة في سبيل المنفعة الاقتصادية.
5- الهجرة الذاتية والإنسانية: الآيات القرآنية الأولى خاطبت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدَّثر: 2)، وهذه الآية واضحة المعنى تطلب من الرسول القيام بدعوة الناس وإنذارهم؛ لأن الرسول يمتلك مسؤولية اجتماعية كبيرة فعليه القيام بها؛ (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدَّثر: 4)، فهذا يعني أن الهجرة هجرة ذاتية داخلية، إذن فالهجرة الذاتية أو الداخلية للإنسان هي هجرته من وضعه الحالي الموجود فيه إلى الوضع الجديد الذي يجب أن يكون عليه، فالإنسان يكون دائمًا في هجرة وحركة مستمرة في حياته ووضعه الخارجي والعيني سواءً كان اقتصاديًا أو فكريًا أو سياسيًا أو علميًا وكذلك في وضعه النفسي والداخلي وفطرته وماهيته ووجوده، فيجب أن يكون في حالة حركة وهجرة مستمرة، وعليه أن يحطم ذلك السكون المتوقف عنده سواء في الظاهر أو الباطن.
وقد منح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أفضل الألقاب وفي أصعب الظروف التي مروا بها، وهذه الألقاب هي لقب المهاجر أو المهاجرين، والمهاجرة صفة من أعظم الصفات التي يتصف بها الإنسان، أو هي أفضل وسام يحمله الإنسان، والمهاجر معناه هو ذلك الإنسان الذي كون في منتهى العظمة في ذلك العمل حيث إنه يمنح هذا اللقب وهذه الصفة(2).
الهجرة النبوية «معرفياً»
مثلت الهجرة النبوية (هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم) تحولًا معرفيًا مهمًا في التأسيس للتغيير الاجتماعي والحضاري، رغم أن الإسلام قدم في مكة نماذج قائدة وراشدة للعمل في ظل الظروف غير المواتية والمواجهة للتغيير والإصلاح النفسي والاجتماعي، فإن ذلك وحده لم يكن كافيًا لتحقيق التغيير الاجتماعي والحضاري المنشود في كيفيته، وفي مساحته، وفي آفاقه.
فكان لا بد من تصميم بيئة مغايرة، أو العمل في بيئة أكثر قبولًا في الوجدان للتغيير، وفي مساحة تقبل الفكرة من حيث المبدأ، فكانت المدينة، صاحبة الأديان والكتب السماوية في مقابل بيئة الأوثان والجاهلية، فتم البناء على أسس، وإن تم تجديد تلك الأسس وتصحيح كثير من الغبش الذي أصابها، ولكن «المدينة» جملة كانت حافظة لمبدأ التوحيد السماوي في مقابل مكة التي هيمن عليها الشرك والوثنية، ومن ثم كانت حركة الإيمان فيها مقبولة ولها أساس في النفس المدنية.
وهو ما جعل القرآن يدعو أهل الشرائع السابقة في المدينة إلى التزام كلمة السواء «العدل»، والإقرار بمبدأ التوحيد الذي جاءت به تلك الشرائع السابقة، وجاء الإسلام متممًا ومصوبًا ومصححًا لما اعترى هذا المبدأ من تغير وانحراف في نفوس التابعين.
_________________________
(1) علي شريعتي: منهج التعرف على الإسلام، ص34-36.
(2) علي شريعتي: تاريخ الحضارة، ص104- 109.