إن المسلم مع قلة الزاد، وقصر النَّفَسِ، وبُعدِ الغاية، وصعوبة التقارب من السلف الأوائل، ما أن يظهر له شيء في الأفق من محفزات العمل ونسائم الأمل يقربه ويبلغه إلا وينبغي أن يدفعه إلى الأخذ القوي به، والحرص الدائم عليه لعله من خلاله يصل.
ونحن في هذا المقال نبرز منهجية ربّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه، واتخذها السلف الصالح في الوصول سلماً لربهم، إنها منهجية أوثق الأعمال أو أرجى الأعمال.
نعم هناك أعمال كثيرة نقدمها وعبادات أكثر نصطف لها، بعضها يكون بحضور كلي وأخر يكون جزئياً، بل هناك ما تكون بدون حضور نهائي، إنما جاءت بديناميكية الجسد وتعود الجارحة، ومع أننا نتكلم على ما وصل إليه السابقون في ميدان العمل ومضمار السباق إلى الله عز وجل ما قد حقق الترضي المعلن عنه من الله ورسوله عنهم، إلا أن لكل واحد منهم عملاً اجتمعت فيه سمات ليست في غيره وأجواء لم تتوفر في مثله جعلته ذخيرة عند صاحبه يقابل بها ربه ويطمئن بها مسيره.
ونحن في العطاء الدنيوي -وخاصة العلمي- تجد كل واحد يقدم ما عنده من الأعمال التي تأتي في إطار ما تخصص فيه أو اهتم به أو فُتح له قربة إلى الله عز وجل وإفادة إلى مجتمعه وواقعه وفنه الذي يخدمه ويحبه، حتى خرجت لنا ما يعرف بمصطلح «الأعمال الكاملة» لفلان أو الموسعة التراثية لفلان من العلماء القدامى أو المحدثين، لكن من بين هذه الأعمال والمؤلفات هناك عمل أو مؤلف يقدمه صاحبه قرباناً بين يدي ربه، يره أوثق أعماله وأرجاها التي اجتمع فيه جملة من الأمور ليست في غيرها وربما لم يكن عند الناس في مقدمة أعماله وكتاباته.
والسؤال المهم: هل انتبهت إلى بناء هذا الأمر في نفسك؟! هل أعددت باباً خاصاً تدخل به على ربك؟! هل ادخرت عملاً تناجي به الله فيكشف به كرباً ويسدل به نعماً وتصل به نجاة؟!
دعني أبث إليك صوراً من هذه العقول التي عايشت النبي صلى الله عليه وسلم، وتربت في مدرسته، كيف أنها ادخرت في ذاكرة الأعمال عملاً، وفي مصارف الزمان أرصدة ثابتة تدر فائدتها ولا تنضب معينها أوصلتهم وكانت عنواناً لمحبتهم لله ومحبة الله لهم.
فهذا يعلى بن أمية قال: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي» (رواه أحمد، صحيح).
وعند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ: «يَا بِلاَلُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ»، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.
وهذان النموذجان، وغيرهما، يجعلانك تقف مع كلماتهما ودوافعهما ومعطياتهما التي جعلتهما يريان هذا العمل أوثق أعمالهما في نفوسهما ومن عظيم ما يدخرانه عند ربهما.
إن من مكر الشيطان بالمسلم أن يفتح بين يديه أبواباً للعجز واليأس، إعياء له، وصرفاً عن عزم يجعله في صف الناجين المتحفزين للعمل المستبشرين بالأمل، فيفتح له باب المقارنات مع قوم سبقوه إلى الله والجنة بمراحل، أو خلصوا إلى تراث عميق وفير تركوه إرثاً وعلماً بلغوا به مقصدهم، أو عُبّاداً يتهم المرء عبادته في رؤيتهم أو السماع عنهم، فهي بالمقارنة غير مقبولة منه أو مأجورة مثلهم، وكل هذا له غاية واحدة من عدو الله في المسلم وهي القعود الدائم والفتور المستمر والإحباط الملازم.
لقد عرف السلف أنهم متفاوتون أعمالاً، لكنهم رأوا تنوع الأعمال الصالحة والنافعة التي فتحها الله لهم باباً لتفعيل هذه المنهجية النبوية الصحابية؛ ما يؤكد أهمية بناء هذا الأمر في نفوسنا وتشبثنا به حتى بلوغنا جميعاً ثمرة ما وصلوا إليه واستبشروا به، ولتحقيق هذا دلالات من فعلهم:
– ليس شرطاً أن تكون هذه الأعمال التي تدخل في هذه المنهجية وتندرج تحت هذا العنوان «أوثق أعمالي» أن تكون عظيمة القدر أداء وكماً، بعيدة المنال، صعبة التحصيل، بل قد تكون من أيسر ما يكون أداء وعملاً، كما هو في فعل بلال رضي الله عنه.
– من أهم الشروط التي يجب توفرها في أوثق أعمالك ارتباطها بالله أداء وتقرباً وغاية، حتى وإن كانت أعمالاً دنيوية أو علمية حياتية، لا يمنع كل ذلك أن تكون مرتبطة بالله قائمة على توجيهات شرعه محققة على حركة وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
– الحضور القلبي أحد أهم هذه الشروط التي تجعلك تحضر بقوة في أرضية هذا العمل، وتجمع من خلاله الجوارح لمعايشته وتفعيله، فهناك أعمال عظيمة لا تجد قلبك معها قد دعيت لها ضيفاً أو مررت بها عابراً وإن كانت من أوثق أعمال غيرك، ولكن أوثق عملك هذا الذي فتح لك وخالطت به جواً خاصاً لم تشتم عبقه في غيره.
– ديمومة البقاء عليه إن كان مما يكرر، والإتيان به باستمرار شرط مهم في تأكيد إنتاجيته وتحقيق ثمرته.
– إبعاده عن دائرة التضييع؛ من حضور رياء يفتت صخرة الإخلاص، أو إعجاب وغرور يقلع جذور التواضع، أو تعظيم رؤية يبخس أعمال الآخرين، أو كثرة ذكر للناس تستنفد معها أرصدة الخبيئة والستر، أو مقارنة بغيرك يخرب ميكنة الأداء ويعطل جهاز القوة، أو الاستغناء به عن غيره فتضعف المسير وينفذ الوقود قبل وصولك وجهتك.
وأخيراً؛ فلتعلم أن هذه المنهجية ممكنة في التحصيل واضحة لكل إنسان قد سخرت الأعمال لمن يأخذها ويختار منها ليحقق من خلالها:
– هذا عنوانك الذي به تعرف في الأرض وفي السماء قبولاً وادخاراً، فما سكون من علمك أو عبادتك أو جبر خواطرك أو حنان قلبك أو شهامة مواقفك أو سيلان دمعك أو شدة تأثرك أو نصحك أو برك إلا وتكتب به وتعرف يوم القيامة من خلاله ولك في هذا آثار وسير.
– باب القبول التي تدخل به على الله تعالى ووسيلة عملك التي ترجوه بها وتقدمه في الوصول إلى بغيتك وتحصيل مأمولك وتأمل ما يقدمه نبيك من محامد وأذكار يوم القيامة استشفاعاً لك كيف نال من خلالها مبتغاه ورضي عنه مولاه، فعند مسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ: يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ..».
– الجنة التي سمع النبي صلى الله عليه وسلم حركة قدم بلال فيها بسبب هذا العمل الراجي من ورائه وصول رحله إلى مواطن رحلته.
– كشف الكروب التي تمر عليك ليس لها إلا منهجية أوثق أعمالك، وتأمل أصحاب الصخرة التي سدت عليهم كيف كان تشاورهم في الخروج من كرب الدنيا وصخرة الحبس، فعند البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: «فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا..».
من الآن، ابحث لك عن عمل توثقه في هيئة التوثيق الإلهي، فقدِّم أوراقك وقوِّ اعتمادك، وثبِّت أقدامك، واشرح مرادك، وحقق غايتك، واجعل مدخرك وعلى متنه سلامة مقرك ومرتحلك.