الطريق إلى الله تقطع بالقلوب لا بالأقدام، فلا بد أن يكون القلب حيًا يقظاً متشوفًا مستشرفًا للقرب من الله عز وجل.
فالقلب هو جوهر الإنسان وثروته الحقيقيّة، فإن حفظه صاحبه مبرأً من العلل والأهواء والأمراض والغفلة والقسوة وكافة ما يُبعده عن سيده ومولاه أو يعرّضه للفساد والبوار؛ عاش حياته عزيزاً كريماً، وانقلب إلى ربه راضياً مرضيّاً.
يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسد كله، وإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسد كله، ألا وهي القلب».
لكننا في هذه الحياة الدنيا نعيش امتحاناً واختباراً للعبودية، ولا بد لهذا الاختبار أن تكون فيه بعض التحديات التي تحتاج إلى مجاهدة ومواجهة، وهذه سُنة الله تعالى التي كتبها على هذه الحياة الدنيا، فوجدت الفتن والشهوات ولم تنقطع أبداً، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وقال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4).
فالفتن ستتوالى على العبد حتى يأتيه أجله؛ لأن الفتن مقصودة لذاتها فهي تظهر الصادق من الكاذب، وتظهر المؤمن من المنافق، يقول الله سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت).
فالإنسان وهو يسير في هذه الحياة يرى صنوفاً من المغريات والملهيات التي تستدعي استيقاظ الشهوات، والمطلوب من المكلف هو أن يعدل تلك الشهوات والقوى المركبة فيه بحيث لا يتعدى بها ما أذن فيه الشرع المطهر، وألا تكون باباً لإفساد قلبه وتدنيسه.
وإن خسر الإنسان قلبه فقد خسر مفتاح نجاته، وأما إن صبر وجاهد وتحمل المكاره فاز وربح، وهكذا هي طبيعة الطريق.
قال صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»؛ لذلك أرشدنا الشرع إلى أن طريق الجنة يستلزم على سالكه مقاومة دواعي نفسه وهواه، وعدم الاستجابة له: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات)، أما حين يستسلم المرء لهواه ويتبع رغباته وشهواته؛ فإنه يرسم لنفسه طريق الشقاء؛ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الروم: 29).
ومما يعين على تعديل تلك الشهوات وعدم الخروج بها عن الحد المأذون فيه أن يكون للمرء عقل يزجره عن اتباع شهوة عاجلة تورث غماً عاجلاً وآجلاً، فكم من أكلة منعت أكلات، ولذة أورثت تبعات، وهذا العقل الذي يميز الإنسان به بين ما ينفعه وما يضره هو الذي فضله الله به فمايزه عن البهائم.
النجاة في الآخرة تبدأ بحراسة الإنسان لقلبه، والمحافظة عليه من جميع الآفات والشهوات التي نبه عليها القرآن الكريم، فالعبد إن أهمل حراسة قلبه تطرقت إليه الأمراض، قال عزّ وجلّ: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (البقرة: 10).
وكلما زاد إهمال العبد لقلبه زاد انطماسه وأصيب بالعمى عن رؤية الحق، يقول تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46)، ثم ينغلق القلب حتى لا يفهم شيئاً عن الله عز وجل يقول تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ قُلُوبِ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، ولا يزال هكذا حتى يُختم عليه ويُطبع عليه -أعاذنا الله وإياكم- يقول تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبهمْ) (البقرة: 7)، والقلب المطبوع، يقول تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 101)، فإذا وصل إلى هذه الحال حُجب عن الله عز وجل يقول تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ ما كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14).
كيف نحرس قلبنا ونحفظه سالماً؟
إن العبد يعطي اهتماماً بالغاً بجسده ووقايته من الأمراض، فإذا شعر بألم ما أسرع لعلاجه وطرق أبواب الأطباء ويبحث عن هذه الأعراض، ويقرأ النشرات والتوصيات الطبية ويحاول جاهداً في تطبيق التوصيات والنصائح، ويدقق فيما يأكله ويشربه حرصاً على سلامة بدنه.
وفي المقابل، نادراً ما يهتم بصحة قلبه ولا يلتفت إليه، ولا يركز في حراسته ليحفظه سليماً معافى، بعيداً عن الآفات والأهواء والأفكار السامة والبيئات الملوّثة والصحبة الضارة التي تؤدي إلى قسوة قلبه وحجبه عن الله.
أذكر هنا بعض الوسائل التي وفقني الله إليها لعلها تكون أسباباً تعيننا على حراسة هذه المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وسائل عملية لحراسة القلب:
– تأسيس وترسيخ الإيمان في القلب:
قبل أن نبحث عن الحراسة لا بد أن نمكّن ما نريد حراسته أولاً حتى لا يتسرب مع أول داعي من دواعي الهوى، فلا بد أن يكون الإيمان راسخاً في القلب، مستقراً في كل مشاعره، والمقصود بتمكين وبناء الإيمان هو بناء الثقة في الله عز وجل، وفي أسمائه وصفاته، وفي اليوم الآخر، وبقية أركان الإيمان.
وإن أفضل وسيلة لفعل ذلك هو القرآن الكريم، ذلك الكتاب الجليل الذي أحدث تغييراً عظيماً في الجيل الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هو الشفاء للقلوب المضطربة والوقاية من الفتن.
القرآن الكريم هو المصدر المتفرد والوسيلة العظيمة التي صنعت الجيل الأول، ومن ثَمَّ فهو المؤهل للقيام بهذه الوظيفة معنا إن أحسنَّا التعامل معه.
وكيف لا والذي أنزله هو رب العالمين، العالم باحتياجاتهم، الذي يُريد لهم الخير والقرب الدائم منه؛ (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الفرقان: 6).
ويكفيك في ذلك أن تتعرف على تأثير آيات القرآن عندما تُتلى على من يُحسن استقبالها: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً {108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء).
فالقرآن أعظم وسيلة للثبات على دين الله ومواجهة الفتن والشهوات والشبهات.. لماذا؟ لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولأنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين.
– الحفاظ على الصلاة والعبادات الأخرى:
يجب على المسلم أن يحافظ على أداء الصلاة في وقتها، وأن يلتزم بالعبادات الأخرى كالصيام والصدقة والذكر، فهذه العبادات تعزز الإيمان وتحافظ على الاتصال القوي والدائم بالله عز وجل، قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» (رواه الطبراني)، بالحفاظ على الصلوات والعبادات الأخرى، يحافظ المسلم على قلبه ويبقى على الهدى والاستقامة في زمن الفتن.
– محاوطة القلب بسور الخوف من الله:
الخوف يوقظ القلب الغافل ويزعج دواعي الهوى فيه، ويدفع العبد إلى الجد في العمل من أجل النجاة من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة».
إنه أفضل وسيلة تؤهل القلب لحسن استقبال التوجيهات وتنفيذها، كما قال تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (النازعات: 26).
ومن الوسائل التي تستجلب الخوف من الله عز وجل كثرة ذكر الموت والتوقع الدائم لقدومه، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللذات؛ الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه».