روى الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه (قصص من التاريخ) قصة حقيقية وقعت عمر أبيه، وقد حدثه بها أحد مشايخه، قال:
حدثني بعض مشايخي عمّن رأى بعينه وسمع بأذنه، قال:
وقعت الصيحة في «حي الميدان»، أجل أحياء دمشق وأكبرها، صبيحة يوم من أيام سنة 1831 بأن إبراهيم باشا قادم لزيارة عالِم الشام الشيخ سعيد الحلبي في مسجده. وإبراهيم باشا مَن قد علمت في بطشه وجبروته، ومَن يدُه إلى السيف أسرع من لسانه إلى القول وعينه إلى النظر، ومَن كان جبارَ سورية وفاتحها وسيدها.
فطار الفزع بألباب الميدانيين (وهم فرسان دمشق وحُماتها)، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا يصنعون؟ إنهم يعلمون أن الشيخ لا يقيم وزناً لأحد من أبناء الدنيا، فلا يبجل سلطاناً لسلطانه ولا يوقّر غنياً لغناه، ولا يقيس الناس بما على جسومهم من ثياب ولا بما في صناديقهم من مال ولا بما يبتزّون من أموال الدولة، ولكن يقيسهم بما في نفوسهم من فضائل وما في قلوبهم من إيمان وما في رؤوسهم من علم، وإذا نظر الناس من خارج فرأوا الطبل سميناً عظيماً نظر هو من داخل فرآه خالياً حقيراً.
وكانوا يخشون أن يسوء ذلك الباشا، ويودون لو رجوا الباشا، ولكن كيف يصلون إليه وهو في قصره، حوله الحجّاب والأعوان والجند بالسلاح، ومن حوله الموت ألواناً وأشكالاً يحمي حماه ويحرس أبوابه. ويتمنون لو رجوا الشيخ، ولكن الشيخ أعز من مئة ملك جبار، تحميه هيبته ويحرسه تقواه، وتحف به الملائكة واضعة له أجنحتها.
ولم يكونوا يخافون أن ينال الشيخ سوء، فهذا شيء تُحيله عقولهم لما استقر فيها من إجلال الشيخ وإكباره، ولا تراه أبصارهم، لأنهم يقضون عن آخرهم قبل أن تراه أبصارهم؛ ولكنهم كانوا يخشون الشيخ على الباشا ويخشون الباشا على أنفسهم.
* * *
ومضوا يقيمون معالم الزينة ويبنون أقواس النصر، ويرفعون الرايات على طريق البطل الفاتح، ويقطفون أزهى أزهار الغوطة لينثروها عليه … فما كان الأصيل حتى تم كل شيء، وأقبل الباشا في الموكب الفخم والجند والسلاح والدبدبة، حتى انتهى إلى باب المسجد. وكان باباً صغيراً فاعترض الباشا، كأنه يقول له: ارجع أو أرجِعْ دنياك. إنك تدخل بيت الله بشراً خاضعاً، أما أن تكون تزوير إله … بألف عبد وألف ثوب، فلا! إنه لا يجتمع ميراث النبوة التي جاءت بالتوحيد والمساواة ببقايا الجاهلية التي قامت على الشرك والتمييز بين الناس، إلا محي أحدهما. فانظر: هل محا باطلٌ حقاً؟
قال الراوي: وتردد الباشا هنيهة يفكر، ثم أبعد أعوانه وترجّل، ودخل المسجد منفرداً. وكان الشيخ جالساً على حصير قد وضعت فوقه حشية، وكان ماداً رجله، فسمعته يقول:
والمرء إذا خاف الله وصدق في مخافته خافه كل شيء، لأنه لا يرى كبيراً إلا صغره عنده أن الله أكبر. الله أكبر؛ إن لهذه الكلمة سراً إلهياً، ولكن المسلمين استعجموا فلا يرددون منها إلا حروفاً فارغة من المعنى، وما فرض الله على المسلم أن يقولها كل يوم خمساً وثمانين مرة أقل ما يقولها ويسمعها من المنارة ثلاثين مرة إلا ليعلم أنه لا كبير في الدنيا، وأن من كان مع الله لم يبال شيئاً: لا الملك ولا المرض ولا الوحش، فلو أن المسلم عرف معنى هذه الكلمة وهو يقولها ما عرف الذل والجبن ولا الكسل قال رجل من طرف الحلقة: فإن قتله الملك يا سيدي الشيخ أو أماته المرض؟
فقال الشيخ: سبحان الله! وهل يهاب المسلم القتل أو يبغض الموت؟ إن الموت شديدٌ لأنه انقطاع اللذات وخسران الدنيا، ولكنه لا يكون بهذا المعنى إلا عند الكافر الذي يعيش في الدنيا ويستمتع بملاذّها، أما من كان يتهيأ فيها للعيشة الخالدة، ويقيم فيها كالمستعد للسفر، ويرقب ساعته كما يرقب المسافر ساعة القطار، ويراه حين يمضي ليلقى ربه كالآيب إلى وطنه حين يذهب ليلقى أهله وصحبه … من كان هذا شأنه لا يرى في الموت موتاً، وإنما يرى فيه ولادة جديدة وابتداء حياة. وقد حفظنا من مشايخنا أن أفضل الشهداء رجل يقول كلمة حق عند إمام جائر فيقتله بها.
وكان الباشا قد وقف على الحلقة منتفخاً مصعراً خده شامخاً بأنفه، فنظر إليه الشيخ رحمه الله فلم يتغير، ولم يَبدُ عليه أنه رأى فيه أكثر من رجل، وأشار إليه (أن اجلس) كما كان يفعل بغيره، فلم يتمالك الباشا أن جلس. ونظر في الحاضرين يقلب فيهم بصره يفتش عن شيء أضاعه فيهم، عن الخضوع والإكبار اللذين تعود أن يراهما حوله دائماً، ينتظر أن يقوموا له وأن يقفوا بين يديه صفاً، ولم يدرِ أن القوم كانوا في غير هذا؛ لم يدرِ أن الشيخ قد علا بهم حتى جعلهم يُطلّون على الدنيا من شرفة طيارة أو من قطع السحاب، فيرون الأرض كلها كمَفْحَص قَطاة، ولا يرون في الباشا العظيم إلا نملة. فمَنذا الذي يحفل بنملة؟!
وأجال الباشا نظره فيهم حتى علق برجل الشيخ (وكانت ممدودة نحوه)، فأثار مرآها كبرياءه وسلطانه، ورأى فيها علامة تعجب أضيفت إلى عظمته وجلاله إضافة سخرية وتهكم، ورآها كبيرة في عينيه، فأحس كأنما هي في عينه، ونظر في الحاضرين: ألم يجرد واحد منهم سيفه يتقرب إلى الباشا بقطّها؟
وكان الباشا ينظر بعين بصره المادية، لم تُفتح – بعد – عين بصيرته المعنوية، فيفاضل بين قصره وسريره ومكان الشيخ وحصيره، وبين جنده وأعوانه وتلاميذ الشيخ وإخوانه، فيوقن أن دنيا الشيخ كلها لا تثبت لحظة لسيفه الذي لم تثبت له دنيا الخليفة العثماني (إمبراطور الشرق). وكان كالأسد الذي زعموا أنه مر على قنبلة من القنابل المدمرة ملقاة في أجمته، فعجب منها وحقرها وقال: ويحك، أي حيوان أنت؟ يا للضعف والمهانة! أين الأنياب؟ أين المخالب؟ أين … أين … ؟ يا للهوان ماذا يصنع بأهله!
قالوا: ثم ركلها برجله، فانفجرت القنبلة!
وانفجرت القنبلة من فم الشيخ فرجع يتكلم
* * *
قال: ومن عجيب صنع الله في الإنسان أنْ خلقه حيواناً كالحيوان، ولكنه وضع فيه ملكاً ووضع فيه شيطاناً، فمن كان همَّه من دنياه لذتا بطنه وفرجه وابتغاهما من حِل ولم يعرف غيرهما لم يكن فيه إلا الحيوان، فهو يرتع كما يرتع الحمار ويتبع غريزته كما يتبع. ومن كان همه اللذة من حل وحرمة، ومن كان لا يبالي ما اجترح من السيئات، لم يكن فيه إلا الشيطان، وكان العقرب والخنفساء خيراً منه، لأن مصيرهما إلى التراب ومصيره إلى النار. ومن كان همه أن يعيش في هذه الحياة كما يعيش في مدرسته، يتلقى فيها أساليب الكمال ليعيش من بعده في أساليب الكمال، فهو الإنسان حقاً.
ومن عجيب صنع الله في الإنسان أنه وضع في نفسه المَلَك، فلا يحتاج مهما كان ضالاً فاسقاً ظالماً إلا تنبيه الملك في نفسه ليطرد الشيطان ويقود الحيوان، فلست أنت الذي يعظه، ولكنه يعظ حينئذ نفسه. وهذا معنى قولهم:
لا تنتهي الأنفسُ عن غيّها … ما لم يكن منها لها زاجِرُ
وذلك ثوابه في الجنة، والجنة لا تكون بالتشهّي والأمل، ولكن بالجِد والعمل. ولو أن تلميذاً أمضى عامه في لعبه ولهوه ثم تمنى النجاح، أكان ينجح؟ ولو أن صياداً ألقى بندقيته فلم يضرب بها، ورمى شبكته فلم ينصبها، ثم حلم بالقنيصة، أكانت أحلامه تعدو في إثر الغزال حتى تأتي به مكتوفاً، أم كانت السمكة تأتيه وحدها وعلى ظهرها الملح والفلفل تقول له: كلني؟
قال الرجل: ولكن القلوب قست يا سيدي الشيخ، فما علاجها؟
قال: إن الشيطان لا يأتي إلا من إشعاره الكمال، فأشعر نفسك النقص وذكّرها في الصحة المرض وفي الحياة الموت. ولقد أدركنا من مشايخنا مَن إذا قسا قلبه أمَّ المستشفى أو قصد المقبرة فخوّف نفسه المرض وذكّرها الموت. والمؤمن لا يزال بخير ما زال بين الخوف والرجاء، فإن لم يخف أو يرجُ فقد هوى.
ولقد سمعنا أن منهم من كان يُدني يده من المصباح ويقول: يا نفس، إن لم تصبري على هذا فكيف – ويحك – تصبرين على نار جهنم؟ وإن المؤمن ما ثارت في نفسه شهوة إلا أطفأها بأنهار الجنة، أو أحرقها بنار جهنم، فاستراح منها.
وما الإنسان لولا العقل؟ وكيف يكون العقل إن لم يكن معه الإيمان؟ إنه لا يكون – إذن – إلا كما قالوا: أوله نطفه مذرة، وآخره جيفه قذرة. وإن للسلطان لسكرة، فمن أسكره سلطانه وعزته على الناس فليذكر هوانه على الله، وأن الله أهلك أشد الملوك (وهو النمرود) بأضعف الخلق (وهو البعوض)!
فيا مَن أصله من التراب، لا تنسَ أن نهايتك إلى التراب!
* * *
وكان الباشا يشعر – والشيخ يتكلم – كأنه كان محبوساً في صندوق ثم فتح عينيه فنشق الهواء الطلق، أو كأنه كان في ظلمة فاحمة فطلع الشيخ عليه شمساً نيرة، فتضاءل حتى جلس على ركبتيه، ورأى نفسه دون هؤلاء كلهم لأنهم ألصق منه بالشيخ وأدنى إليه، ولم يعد يزعجه مرأى الشيخ وهو ماد رجله … بل كان يراه الغريق ويراها خشبة النجاة، وكان يبصرها عالية كجناح النسر المحلق، ثم لم يعد يرى فيها شيئاً. لقد استحال الشيخ في نظره إلى فكرة … لم يعد يرى فيه إلا الحقيقة تمثلت إنساناً!
* * *
قال الراوي: «فلما ذهب الباشا بعث إلى الشيخ بكيس فيه ألف دينار من الذهب العين، فلما جاءه به الرسول وألقاه بين يديه تبسم الشيخ رحمه الله ورده إليه، وقال له: سلم على سيدك وقل له: إن مَن يمد رجله لا يَمد يده»
فما أجمل عزة العالم، وما أحسن وقع الخوف من الله عليه وأثره من زوال الخوف من الناس.