بينما تشهد القاهرة انعقاد المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، يثور الحديث مرة أخرى عن المؤتمرات الدولية والرؤى الغربية المبثوثة عبر تلك المؤتمرات لتنظيم شؤون الشعوب والأمم على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن بين تلك المجالات المجال السكاني، إذ عمد المؤتمر العالمي للسكان منذ انعقاده الأول في بوخاريست عام 1974م إلى الربط فيما بين قضية السكان والديموغرافيا وتحقيق التنمية في الدول بشكل عام والدول النامية بشكل خاص، وأصبحت مسألة خفض معدلات الزيادة السكانية والصحة الإنجابية مطلباً ملحاً على الأجندة الدولية الدائمة للأمم المُتحدة.
وتتركز أهم المبادئ والأهداف التي يسعى إليها المؤتمر العالمي للسكان في رؤية خاصة تؤمن بأن الزيادة السكانية من أهم أسباب تراجع معدلات التنمية، ومن ثم يجدر تقديم جهود قوية لخفض تلك الزيادات عبر دعم ما يسمى «الصحة الإنجابية» التي هي في حقيقتها ترادف «تحديد النسل»، بالإضافة إلى دعم وتمكين المرأة لاستكمال التعليم ورفع سن الزواج وحظر زواج الأطفال ودعم الإجهاض الآمن، وكلها وسائل في سبيل تحقيق الغاية الكبرى لخفض خصوبة النساء؛ ومن ثم الوصول إلى النهضة الاقتصادية.
وتنبع تلك الرؤية من اعتقاد غربي بالأساس يرى في الزيادة السكانية في الدول النامية –الإسلامية بالأساس- خطراً محدقاً ليس إزاء تحقيق التنمية وإنما أمام الغرب نفسه، ففي مقابل تلك الزيادات السكانية التي هي في صميمها قوة بشرية واقتصادية واجتماعية وسياسية هائلة، يعايش الغرب انخفاضاً سكانياً غير مسبوق، وبينما تسعى المؤتمرات الدولية السكانية لتشجيع الدول النامية على خفض سكانها وتقدم الدول الكبرى دعماً مالياً سخياً للدول المستجيبة لتلك القرارات، تشهد الدول الغربية تشجيعاً وتحفيزاً لمواطنيها على الإنجاب وتقدم الدعم المالي للأسر التي تتخذ قرار الإنجاب، وهو ما يوضح ازدواجية المعايير بين السياسات الغربية في الداخل والخارج.
كذلك، فإن الربط التعسفي بين الزيادة السكانية وتعطيل التنمية هي رؤية قاصرة للعامل البشري الذي هو في حقيقته أهم عوامل تحقيق التنمية، فالبشر هم قاطرة التنمية ومن ثم فإن ربط الدعم الغربي للدول النامية بخفض عدد السكان عرقلة صريحة للتنمية في العالم الإسلامي.
من ناحية ثانية، تكمن خطورة المؤتمر في عمله المنظم لتدمير كيان الأسرة دونما اعتبار لأهمية ذلك الكيان ومكانته في مختلف الثقافات وخاصة الثقافة العربية والإسلامية، فالرؤية الغربية الحداثية آمنت بالفردانية المطلقة وحطمت في سبيل الفرد وحريته كل الكيانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت دعاوى إطلاق حرية الفرد، ولما كانت الأسرة كمؤسسة اجتماعية تقف عقبة في سبيل تلك الفردانية المقدسة، فقد تم تكريس سائر مبادئ المؤتمر لهدم تلك المؤسسة الاجتماعية عبر تشجيع حرية الشذوذ الجنسي، حرية الإجهاض الآمن، رفع سن الزواج، حرية العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وغيرها من مبادئ تدعم جميعها العلاقات غير المستقرة وغير الآمنة وتفكك الترابط الأسري الذي يضمن للإنسان إطاراً تربوياً وقيمياً للتنشئة والرعاية السليمتين.
الرؤية الأحادية
وتتمثل الإشكالية الكبرى التي ينطلق منها مؤتمر السكان بشكل خاص والمؤتمرات الدولية بشكل عام بما يستدعي المواجهة والرفض في الرغبة الغربية للدول المهيمنة على تلك المؤتمرات والراعية لها في فرض رؤية أحادية للعالم منبثقة من خلفية ثقافية معينة تفرض نفسها بالقوتين الغاشمة والناعمة باعتبارها الرؤية التي تمتلك الإجابات الصحيحة الوحيدة لأسئلة النهضة والتحضر والحداثة والتقدم، ومن ثم فإن أي رؤى أخرى بمثابة عدو يجدر طمسه ومحوه لمصلحة تلك الرؤية الغربية التقدمية الحداثية، فطالما أن الغرب يمثل الحداثة والتقدم والانفتاح والتسامح، فإن الثقافات والأديان الأخرى ما هي إلا رؤى رجعية ماضوية يجب تجاوزها إذا ما أرادت الشعوب تحقيق التقدم والرخاء، وأي خطوات رافضة للرؤية الغربية ورعاتها إنما هي بمثابة إرهاب وعنف وعلى أقل تقدير خطوات منحازة وغير متسامحة ولا تمتلك الانفتاح الكافي لكي تتبنى الرؤية الغربية وتتخلى عن ذاتيتها.
وبتلك الرؤية بدأت موجات العولمة الغربية تدعو سائر الحضارات والثقافات على مستوى العالم لتبني الرؤية الغربية للعالم والتخلي عن خصوصياتها الثقافية، وذلك تحت دعوى بأن قيم الغرب ومبادئه السبيل الوحيد الناجع نحو التحديث والتقدم، وخُصص لأجل ذلك الغرض عدد كبير من الأدوات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومن أهم أذرع عولمة العالم في العصر الراهن المؤتمرات الدولية التي تنعقد دورياً وتتمخض عن قرارات وسياسات يجدر تبنيها لتحقيق رضاء الدول الكبرى والاحتفاظ بدعمها وتجنب إثارة غضبها سياسياً عبر حروب شعواء، أو اقتصادياً عبر حرمان من الدعم.
لماذا الأسرة؟
وبينما كانت الأداة الأكثر استخداماً لفرض الهيمنة في العصور الماضية هي الاحتلال العسكري المباشر وفرض الثقافة جبراً على الشعوب المحتلة، فقد انتقلت الدول في العصر الراهن إلى التنويع بين القوتين العسكرية والناعمة، وظهر الغزو الثقافي والاقتصادي غير العنيف لفرض القيم والمبادئ بشكل غير مباشر على الشعوب، وقد اختلفت وسائل وأهداف ذلك الغزو الثقافي والهيمنة الحضارية نتيجة ذلك التطور في القوة الناعمة، إذ بدّل الهدم والتدمير وجهته من المؤسسات السياسية والجيوش إلى المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والاجتماعية.
فأصبح الاتجاه إلى هدم الأديان وطمسها بمثابة علمنة تستهدف المساواة بين المواطنين، وأصبح طمس الهوية بمثابة تطوير للمناهج التعليمية لتصبح أكثر تسامحاً وانفتاحاً، واجتماعياً أصبح هدم مؤسسة الأسرة أحد أهداف التدمير باعتبارها خط الدفاع الأول في التنشئة واللبنة الأولى في تشكيل شخصية الفرد وتعزيز هويته وزرع قيم ومبادئ حضارته التي تنطوي على رؤية خاصة للعالم قد تتعارض مع رؤية الغرب.
الذكرى الثلاثون
وبانعقاد مؤتمر السكان في القاهرة للمرة الثانية بعد نحو 30 عاماً من انعقاده عام 1994م، يتضح مدى التطور في برنامج عمل المؤتمر وعمله المطرد في قضايا هدم الأسرة، فقضايا كان يتم ذكرها على استحياء وفي مقدمتها قضية الشذوذ الجنسي والإجهاض أصبحت أكثر وضوحاً وأشد تمسكاً من جانب المؤتمر، وفي ظل استخدام الترغيب تارة باسم المساواة وحقوق الإنسان، والترهيب تارة أخرى بالتلويح بالعقوبات الاقتصادية والحرمان من الدعم، سارت كثير من الدول في طريق تبني مبادئ المؤتمر خاصة في ظل مراجعات خماسية تعقدها اللجنة المختصة بالسكان بالأمم المتحدة كل خمس سنوات لمتابعة تنفيذ الدول والتزامها بقرارات المؤتمر عبر تعديلات قوانينها الداخلية لتتلاءم أكثر مع تعليمات المؤتمر.
وإذ يرفع مؤتمر السكان وسائر المؤتمرات الدولية شعارات براقة لا يمكن رفضها بشكل مباشر وقاطع كالمساواة وحقوق الإنسان وغيرها، فإن على الدول المسلمة تحدياً مهماً لإعادة النظر في كثير من القضايا الداخلية المتعلقة بالحقوق والحريات وفتح الملفات المرتبطة بالتنمية ورفع مستوى المعيشة والنهوض بالفرد والمجتمع انطلاقاً من قيم إسلامية تنبع من الهوية الذاتية وتستجيب لحاجات المجتمع وما يمليه من متطلبات داخليه بعيداً عن الأجندات الخارجية والقوالب الغربية الجاهزة التي ترغب في تقديم حلول موحدة لسائر المجتمعات دونما مراعاة لخصوصية كل مجتمع وقائمة أولوياته واحتياجاته.