بات من المؤكد أن الأمة الإسلامية هي المستهدف الرئيس من التطبيع، من خلال إضعاف الاهتمام بالقضايا التي تهم المسلمين وبالثوابت الإسلامية وتفكيك هوية الأمة الإسلامية، وتشتيتها، وإنشاء جيل متخبط الفكر والمبادئ، غير متمسك بقيمه، يرى أن «إسرائيل» والدول الغربية نموذج للدول الناجحة المتقدمة، بغض النظر عن النهج والأسلوب المتبع، فجيل مسلم عربي لا يعرف عدوه من صديقه أخطر على الأمة الإسلامية والعربية من التطبيع نفسه.
أهداف قذرة وتهديد خطير
ويعتبر التطبيع سياسة قاصرة وضارة لنا نحن العرب على مستوى الحكومات والشعوب، ويتلخص ضرره في تهديد الاستقرار في الوطن العربي، وتغذية التطرف، وانتشار الانحلال والفساد الأخلاقي، نتيجة تلاقح الأفكار الصهيونية الغربية التي تساهم بشكل كبير في نشر ثقافات مائعة وفاسدة خارجة عن عاداتنا وتقاليدنا كشعوب عربية وأمة إسلامية.
كما يعد من أكبر الأخطار التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية في الوقت الراهن، حيث إنه يهدف بشكل رئيس إلى إعادة تشكيل منظومة العلاقات والقيم والمفاهيم العربية والإسلامية تجاه الاحتلال، وفق الرؤية الصهيونية، ويمكن اعتباره سبباً رئيساً لانبثاق ظاهرة الانحلال الأخلاقي.
التطبيع تهديد خطير يهدد الأسس الإسلامية والعادات والقيم الإنسانية الخالية من الانحلال
ويمثل التطبيع بأشكاله وأبعاده المتعددة تهديدًا خطيرًا يهدد الأسس الإسلامية والعادات والقيم الإنسانية الخالية من الانحلال، المستمدة من الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة التي تدعو إلى نبذ كل ما هو مخالف لشرع الله، ومن بينها وجوب عداوة اليهود وعدم مصالحتهم أو التطبيع معهم لقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) (المائدة: 51)، وقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة 82).
كما يمثل التطبيع شكلاً جديداً للاستعمار؛ وهو الاستعمار الفكري، الذي يستهدف الشباب والنشء ويعمل على إفقادهم لهويتهم، وتمسكهم بمنظومة القيم والأخلاق، وشل قدرتهم على التعامل المنطقي مع القضايا الشاذة، بل والانخراط فيها كشكل من أشكال الحضارة والرقي، وكذلك شل قدرتهم على التعامل مع المشكلات التي تستهدف مجتمعاتهم العربية والإسلامية، وبث الأفكار الغربية الصهيونية الفاسدة التي تدعو إلى الانحلال والرذيلة الهادفة لتدمير الشباب، العنصر الرئيس في بناء الشعوب والمجتمعات، في ظل غياب الوعي الديني والتربية الأخلاقية الإسلامية وتطبيقاتها والمبادئ والقيم الأصيلة النابعة من قيم الدين الإسلامي وشريعته السمحاء، وبالتالي سهولة السيطرة عليهم وغزوهم فكرياً ليكونوا أداة هدم لشعوبهم ومجتمعاتهم بدل أن يكونوا أداة بناء.
سياسة صهيونية ثابتة
لو عدنا إلى الوراء وطالعنا آراء الفلاسفة الغربيين الصهاينة أمثال دارون، ونيتشيه، وماركي، وأنجلز، وفرويد، ودوركايم لوجدنا دورهم الكبير في هدم الفضائل والأخلاق ونشر الانحرافات من خلال هدم الدين الذي أرسى قواعد الإيمان وإقامة الحياة على مبدأ الأخلاق وجعله منهج حياة، ولم يكتفوا بذلك؛ فقد جندوا أزلامهم في كل زمن من أجل فرض هذه القواعد على الشعوب العربية؛ لأنهم يدركون جيداً أن هدم الأخلاق ونشر الفساد والانحلال يعني سهولة السيطرة على الأجيال وعلى أفكارهم واستعمارهم؛ وبالتالي استعمار أرضهم، وجاء التطبيع اليوم من أجل هذه الأهداف الخبيثة.
الموجات التي يفرضها التطبيع من خلال الغزو الفكري والثقافي تعتبر أكثر تطرفاً من التطبيع السياسي والاقتصادي
إن مظاهر الانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي التي نشاهدها اليوم داخل مجتمعاتنا العربية الإسلامية هي من صنع التغريب والتطبيع الذي هدم الفضائل، حيث أصبحت غير مرغوب فيها، وانفصلت عن مصدرها المستمد من الدين، وقلب الأخلاق إلى نفعية تطاع بقدر ما تحققه من مصلحة ومنفعة دون النظر لما تحققه من قيم ومبادئ إسلامية.
إن الموجات التي يفرضها التطبيع من خلال الغزو الفكري والثقافي وجنوح المجتمعات إلى الانحلال والفساد تعتبر أكثر تطرفاً من موجات التطبيع السياسي والاقتصادي؛ لأن الغزو الفكري يدمر الشعوب أكثر من الغزو العسكري؛ وبالتالي يصبح من الفرض الواجب على الشعوب العربية والأجيال مناهضة مثل هذه الأفكار ومجابهتها، كونها تمس العقيدة الإسلامية التي نشأنا عليها التي لا يمكن النقاش حولها أو المفاضلة بينها وبين أي أفكار أرضية، كيف وإن كانت من عدو يمثل لنا الاحتلال والتدمير والسرقة وكل ما هو سلبي، ويهدف إلى ضرب المناعة النفسية لدى المواطن العربي والوصول إلى عقله ووجدانه، للقبول به ضمن شروطه، ومشاركته أهدافه ومجالاته، والسيطرة عليه فكرياً، وعمل «غسيل مخ» له و«مسح ذري» لكل القيم والعادات الأخلاقية والإنسانية النابعة من عقيدته وتطويعه ليكون أداه تساهم بشكل كبير في فكرة التقبل الغربي والصهيوني وعاداته وتقاليده بكل ألوانها وتفاصيلها.
إصرار وطول نفس
إن الإصرار الصهيوني على التطبيع، خصوصاً في الميدان الفكري والثقافي، ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه وشخصيته القومية، ونشر الانحلال الأخلاقي في ظل الفراغ الديني الذي تعاني منه المجتمعات العربية وأجيالها من الشباب، الذين يجدون في طريقهم دوماً مؤسسات الغزو الفكري وجمعيات الانحلال الأخلاقي الغربية والصهيونية التي تعمل بنفس طويل ليل نهار دون كلل أو ملل، وتعمل في عقولهم وأفكارهم أكثر مما يفعله ألف مدفع عسكري، فيسيرون في فلكها وينتهجون أفكارها وينقادون لها، وحينها تبدأ في مسح ذاكرتهم التاريخية، وقطع صلتهم بعروبتهم وماضيهم التليد، وعزلهم عن واقعهم ومجتمعاتهم وإبعادهم عن كل ما يعزز فيهم القيم والعادات والأخلاق الحميدة حتى يفقدوا البوصلة ويحيدوا عن الطريق الصحيح.
وأخيراً يمكن القول: إن التطبيع بكل أشكاله مفسدة وسرطان تجَذَّر في قلب الأمة العربية التي غضت البصر عن عواقبه الوخيمة على الشعوب والأجيال، رغم إدراكها لتلك العواقب، وإن السير في فلكه ينذر بمزيد من الأخطار، إن لم تكن الأجيال قادرة على مجابهته ومكافحة أهدافه الخبيثة وسياساته الخطيرة الرامية لنشر الفساد والانحلال في مجتمعاتهم.