أقبل اليهود الصهاينة بقضهم وقضيضهم إلى أرض فلسطين على حين غفلة من أهلها.
وقبل ذلك كانوا خطَّطوا لحركاتهم، وتصوَّروا مستقبلهم، وحدَّدوا أهدافهم، ونفَّذوا ما خطَّطوا له باتخاذ كل السبل لإيجاد موطئ قدم لهم في فلسطين، فطرقوا باب الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد الثاني، واشتروا أراضي في فلسطين، واستعانوا بالقوى العظمى في التمكين لهم.
ولما أُسقطت الخلافة العثمانية وانفرد المحتلون ببلدان العرب والمسلمين مكَّنوا اليهود الصهاينة من أرض فلسطين.
وراحت عصابات اليهود تسارع الوقت لاغتصاب ما تقدر عليه من الأرض؛ فأثخنت بالبريطانيين الذين وعدوهم بالأرض المقدسة وأعانوهم ومكنوا لهم، وبثت الرعب في قلوب الفلسطينيين بالمجازر، وعملت على تهجيرهم من أرضهم.
وقد قامت ثورات فلسطينية مسلحة قبل إعلان قيام الكيان الغاصب، لكنها لم تكن قادرة على ما منع ما قدَّره الله من اجتماع اليهود الصهاينة في الأرض المقدسة.
ولم يمض ربع قرن على سقوط الخلافة حتى أعلنوا قيام كيانهم الغاصب بنبوءات توراتية، وإرهاب وقتل وحرق وتدمير، وموافقة واعتراف من القوى الكبرى، وغياب إسلامي، وضعف عربي وخيانة من البعض؛ حيث إن الجيوش العربية -التي كانت بلدانها تحت الاحتلال الأجنبي- مع المتطوعين من الشعوب قد هبوا لمحاربة اليهود، لكنهم انهزموا لأسباب كثيرة.
فكانت النكبة عام 1948م، والتي تشتت بعدها الفلسطينيون في بلدان العالم، أو هُجروا من أراضيهم وبيوتهم في الداخل إلى أماكن أخرى.
وتبدَّلت المعادلة؛ فبعد أن كان اليهود هم المشتتين شذاذ الآفاق، ذاق الفلسطينيون من كأس الشتات والهجرة واللجوء.
ثم كانت الثورات العربية الداعية لخروج المحتل الأجنبي وإسقاط الأنظمة التي كانت قائمة، وقد تمكن ضباط من تلك الجيوش من إقامة أنظمة سياسية جديدة، وتفاهمت مع المحتل على الخروج والجلاء، ولم تكن تخفي تلك الأنظمة الجديدة عداءها للكيان المغتصب ودعمها للفلسطينيين.
لكن تلك الجيوش العربية -التي أصبحت صاحبة الكلمة العليا في بلدانها- لم تنهزم فقط خارج أراضيها القطرية، بل تمكن الكيان من هزيمتها مرة ثانية في النكسة عام 1967م، وابتلع فلسطين كلها، وأجزاءً من الأراضي المصرية والسورية، ثم جنوب لبنان.
فمن ادعى حمله للقضية الفلسطينية لم يتمكن من استرجاع فلسطين فضلاً عن حماية أراضيه.
ثم جاءت حرب العاشر من رمضان التي أرجعت بعض الأرض والكرامة للعرب، لكنها تبعتها إجراءات كارثية من الرئيس الراحل محمد أنور السادات بإبرامه معاهدة للسلام مع الكيان، تلك المعاهدة التي جعلت مصر مجرد وسيط بين اليهود والفلسطينيين، بعد أن كانت من حماة القضية والمدافعين عنها والباذلين الدماء في سبيلها.
وفي بعض المراحل السوداء من التاريخ كانت وسيطًا غير محايد، بل تقف من خلال نظامها -لا شعبها- في صف الكيان أكثر من وقوفه إلى جانب الفلسطينيين.
ولم تنقطع المقاومة الفلسطينية يومًا من الأيام، وقد تعددت أشكالها وألوانها ووسائلها، وانضوى تحتها لوائها ذوو اتجاهات شتى ومشارب مختلفة؛ فمنهم القومي والإسلامي واليساري والمسيحي… إلخ، لكنها كانت فردية وبأدوات بسيطة.
وقد بدأت التنظيمات المسلحة الفلسطينية باكرًا؛ فحركة فتح تكونت في الخارج، وأعلنت عن نفسها في الفاتح من يناير سنة 1965م.
ثم دخل عنصر جديد في معادلة الصراع؛ فلم تعد التنظيمات وحدها من تواجه المحتل، بل انتفض الشعب الفلسطيني كله في وجه المحتل الصهيوني عام 1987م، وكان ذلك إيذانًا بانتقال المواجهة من تنظيمات بعضها في الخارج والداخل إلى مواجهة شعب كامل خرج مدافعًا عن كرامته وشرف، ولم يكن يملك إلا إيمانه في قلبه وحنجرته الصادحة برفض عربدة الصهاينة وحجرًا في يده يحاول أن يدفع به عن نفسه الجنود الصهاينة المدججين بالسلاح.
وبعد كثير من إثخان حركة فتح للعدو انحرفت فوهة البندقية لدى زعيمها واختار السلام بتوقيع معاهدة أوسلو عام 1993م، وبدأ يصنع من نفسه حارسًا للكيان الصهيوني، ومحاربًا للتنظيمات المسلحة الأخرى، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس.
ولم يجلب هذا السلام الزائف السلام للفلسطينيين، ولم يُعد لهم أرضهم، ولم يحمِ عرضهم وشرفهم، بل زاد إذلال الصهاينة للفلسطينيين، ثم غدروا بمن وضع يده في أيديهم باسم السلام، وهو الرئيس الراحل ياسر عرفات.
فلما زادت الغطرسة الصهيونية، وتغولت عربدتهم على الفلسطينيين، ولم يكن هناك رادع لهم من أي طرف من الأطراف الدولية، وأعلنوا نواياهم في هدم المسجد الأقصى وحفر الأنفاق من تحته، وكثرة اقتحامه من قبل الجنود والساسة والقادة والحركات الدينية الصهيونية المتطرفة لم يجد الفلسطينيون بدًّا من الخروج مرة أخرى بأنفسهم للدفاع عن مقدساتهم وأرضهم في انتفاضتهم الثانية سنة 2000م.
ولم يمض عليها الكثير من الوقت حتى ضاق الصهاينة بغزة وما يحدث فيها فخرجوا منها وفككوا المستوطنات (المغتصبات)، فأصبحت غزة محررة وتمثِّل صداعًا في رأس قادة الاحتلال، وشوكة في جنوبهم تنغص عليهم رقادهم.
وفي أثناء الانتفاضات كان الفلسطينيون يستغيثون فلا يُغاثون ويستصرخون فلا يُلبون، بُحت حناجرهم من النداء على إخوانهم: أين أنتم يا عرب؟ أين أنتم يا مسلمون؟
لكن حيل بين الشعوب وبين تلبية نداء، بل وشاركت بعض الأنظمة في حصار الغزيين؛ لأنهم اختاروا -عن طريق الديمقراطية النزيهة- أن يحكمهم أبناء حركة حماس.
وتوالت الحروب على غزة تحت الحصار، ودون مد يد العون من أحد إلا من بعض الإغاثات التي تأتيهم من إخوانهم العرب والمسلمين.
فتيقنوا أنهم هم وحدهم المنوط بهم المدافعة عن أنفسهم؛ فتدرجوا من الحجر إلى السكين إلى البنادق الآلية إلى التفجير إلى صناعة صواريخ بدائية إلى تطوير التصنيع العسكري؛ حتى بات كثير من أسلحتهم محلية الصنع.
وفي كل تلك المراحل كان يجدون المخذِّلين المحبِّطين من دعاة السلام الذي لم يجلب لهم يومًا السلام، بل أريد لهم الإذعان والإخضاع والإذلال.
والتحم الشعب مع مقاومته؛ فما عاد يستنجد بأحد إلا برب السموات والأرض كاشفًا ضعفنا وقلة حيلتنا.
هم صبروا وصابروا وجاهدوا فسوف يأتيهم المدد من السماء، والمخذول هو من خذلهم، والمهزوم هو من أدار ظهره عن نصرتهم.
لكنهم أثبتوا أن الاعتماد على الله وحده ثم الأخذ بالأسباب هما وحدهما الجديران بتغيير وضعهم، لا تلك المناشدات السابقة التي لم تغير لهم حالاً، ولم تجلب لهم أمنًا وسلامًا.
فالاعتماد على الذات درس مستفاد من تلك الحرب التي سيكون ما بعدها مختلفًا عما قبلها؛ فحرب (طوفان الأقصى) هي بداية النهاية لهذا الكيان الذي اجتمعت له كل أسباب النصر والمناصرة من دول العالم الكبرى، لكن المخذول من خذله الله؛ فقوته ومناصرة الآخرين له لم تغن عنه شيئًا أمام شعب آمن بربه وبمقاومته وبذاته.