منقبة، وأي منقبة تلكم التي أنالها القدر لدحية بن خليفة بن فروة الكلبي رضي الله عنه! منقبة خصَّـه بها، وأنهاها به، فلم تعرفها الدنيا إلَّا فيه، ولم يسجلها التاريخ إلا عنه، وهل يخصُّ القدر بالمناقب إلَّا من كان بها جدير؟ فأنزلته في الدنيا منزلة لا يُضارعه فيها قاصٍ ولا دانٍ، وما نحسبها إلَّا وسترتقي به في الآخرة إلى مكانة لا يرتقيها إلَّا الصالحون والأبرار، ولو أردنا في عبارة واحدة أن نُجلِّيها ونجتليها(1) لذكرنا العبارة النبوية الشريفة: «كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبيِّ»(2).
كان دحية رضي الله عنه رجلاً جميلاً، حتى قيل فيه: أجمل الناس من كان جبرائيل ينزل على صورته، وقيل أيضاً: كان يُـضْـرب به المثل في حُـسْـنِ الصورة.
ومنذ أسلم دحية رضي الله عنه في صدق وإنابة عقد عزمه على بذل نفسه نُصْرَة للدين، فراح يشهد مجابهات الخير والشر، وصدامات النور والظلام، فشهد «أُحداً» وما بعدها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت غزوة «الخندق» أول مشاهده.
ورأى فيه النبيّ صل الله عليه وسلم مؤهلات من حكمة وشجاعة وحُـسْنِ بيان ما أضاف إلى شخصه من روائع فوق رائعة الجمال، فأوفده رسولاً إلى قيصر، فلقيه بحمص أول سنة 7 أو آخر سنة 6ه.
ومن دأب التاريخ أنه يتمهل عند الأحداث الجسام، والأمور العظام ليُجري عليها قلمه، وكلما عَظُمَ الحدث طال وقوف التاريخ، وهنا سجل التاريخ: فأتى دحية قيصر فقيل: إن على الباب رجلاً يزعم أنه رسولُ رسولِ الله، ففزعوا لذلك وقال: أدخلوه، فأدخل عليه وعنده بطارقته(3)، فأعطاه الكتاب وَقُرِئ عليه، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل صاحب الروم»، وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الشعر فقال: لا تقرأ الكتاب؛ لأنه بدأ بنفسه، وكتب «صاحب الروم»، ولم يكتب ملك الروم، فقال: إن يكن بدأ بنفسه فهو الذي كتب إليَّ، وإن كان سماني صاحب الروم، فأنا صاحب الروم ليس لهم صاحب غيري، فجعل يقرأ الكتاب وهو يعرق جبينه من كرب الكتاب؛ «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (وفي رواية: الأكارين)؛ (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64)».
فلما قرئ الكتاب قال قيصر: هذا كتاب لم أسمع بمثله بعد سليمان بن داود، ثم أمرهم فخرجوا من عنده فبعث إلى الأسقف، فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: هو والله الذي لا إله إلا هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم، وموسى، والذي ننتظره، فقال قيصر: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه، فقال قيصر لصاحب شرطته: اطلب لي رجلاً من قوم هذا فأسأله عن شأنه.
قال أبو سفيان بن حرب: فو الله إني وأصحابي كبعرة(4) إذ هجم علينا، فسأل: ممن أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعاً، وأدخلنا إلى مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم خلف ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: فو الله، لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن معه في هدنة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: فما كلمني كلمة أُدْخِلُ(5) فيها شيئاً غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف، والصلة.
فقال لترجمانه: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل تأسى بقول قيل قبله، وسألتك: هل من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر(6) الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أنَّ ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تُخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه، ثم قال: الحق بشأنك.
قال أبو سفيان: فقمت أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول: يا عباد الله، لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم، فما زلت موقناً أنه سيظهر.
ثم أخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه فوق رأسه ثم قبَّله وطواه في الديباج، والحرير.
وفتح الله بدحية قلب قيصر؛ فآمن بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وامتنع عليه بطارقته، فأخبر دحية النبي بما حدث فقال صلى الله عليه وسلم: (ثـبّت الله مُلْكَهُ».
وبروح تتفجر بالحبِّ النبويّ الشريف، أهدى دحية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خفين فلبسهما(7)، وردَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حباً بحب، وتهادياً بتهادٍ؛ حيث قال دحية رضي الله عنه: أُهْدِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قباطي فأعطاني منها قُبْطيَّـة(8).
ويؤكد دحية على تفجر روحه بالحب النبوي الشريف، وفرط حرصه على راحته صلى الله عليه وسلم فيقول: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حماراً على فرس فينتج لك بغلاً فتركبها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون»(9)، وربما كان المعنى إنما يحدث ذلك عن غير قصد، وعدم العلم بأن ولد الحمار والفرس يكون بغلاً.
وصعد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى لتتبدل موجات الحب المتفجر في قلب دحية إلى موجات شوق، فيظل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم آسياً(10)، ويعبر دروب الحياة على هديه الشريف فلا يُسام تعباً ولا بخساً، ويروي عنه محباً مرشداً وإن قلَّت روايته، فقد روى عنه عبدالله بن شداد بن الهاد، ومنصور الكلبيّ، وخالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، والشعبيّ.
وبنفس تتفجر عافية وتوهجاً، شهد دحية وقعة «اليرموك»، وكان على كردوس(11)، مما يقيم الدليل على مهارته في الحرب والقيادة.
ويمرُّ زمن يعلم الله أمده، وينزل دحية رضي الله عنه دمشق، ويسكن بالمزة، وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان أبحر إلى مصيره، وإن ضنَّـت علينا المصادر ببيان موعد ميلاده، وموعد رحيله، وما بينهما من سني عمره، فمن المعلوم أن خلافة معاوية بن أبي سفيان بدأت في العام الأربعين للهجرة، وامتدت إلى العام الستين، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم صعد إلى الرفيق الأعلى في العام الحادي عشر الهجري مما يؤكد بأن دحية عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين عاماً أو يزيد، فيؤكد الاستشفاف التاريخي أن دحية كان في الزمن النبوي الشريف من فئة الشباب الذين كانوا يروحون ويجيؤون تحت الراية النبوية الشريفة.
قلنا: وأبحر دحية في خلافة معاوية رضي الله عنهما إلى مصيره، وما بالنا بمصير رجل كان جبريل عليه السلام ينزل –أحياناً– على النبي صلى الله عليه وسلم على صورته، وها هو يصعد إليه نحسب أنه -لا غير- سيسبح بين جوانب هذه الفضيلة مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً(12).
_______________________
(1) نظر إليه مستوضحاً حتى كشفه.
(2) رواه الطبراني عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وأحمد (2/ 107).
(3) جمع بطريق، وهم طبقة الأشراف والعائلات المنتمية للطبقة الحاكمة في الإمبراطورية الرومانية، مثل طبقة النبلاء في المجتمعات الأوروبية.
(4) رجيع ذات الظلف، والخف، إلا البقر الأهلية.
(5) كلمة «لا» في إجاباته.
(6) يترك.
(7) رواه الترمذي (1769)، وصححه الألباني.
(8) وأبو داود (4116)، وضعفه الألباني، والقباطيّ: ثياب من كتان بيض رقاق كانت تُـنسج في مصر.
(9) رواه أحمد (4/ 311).
(10) حزيناً.
(11) يُقال: كردس القائد الجيش: يعني جعله كراديس، والكردوس: طائفة عظيمة من الجُـند والخيل، تعرف الآن بالكتيبة.
(12) السير والمغازي لابن إسحاق (297)، سيرة ابن هشام (3/184)، طبقات ابن سعد (4/ 249)، تاريخ الإسلام (1/ 48)، التاريخ الكبير (3/ 254)، تاريخ الطبري (2/ 582)، العقد الفريد (2/ 24)، (سير أعلام النبلاء (2/ 550)، الاستيعاب (700)، الإصابة (2395)، أسد الغابة (1507).