«إذا كنت تريد السلام فاستعد للمقاومة»، تبدو تلك الحكمة مساراً تاريخياً لبعض الأمم والشعوب، فوجود المقاومة وروحها وإرادة التحدي يتيح للأمة الاستمرار والفعالية وعدم الذوبان، وتجعلها عصية على الذوبان؛ بل سريعة الانتصار بعد الهزيمة، لإدراكها أن خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب، وخسارة الأرض لا تعني خسارة الكينونة والهوية.
أما الأمم التي تفقد تلك الروح المُقَاوِمة فتشبه السمكة الميتة التي تسير مع التيار، فتبدو وكأنها حية، لكن الحقيقة أنها فقدت الحياة كاملة، ولا تملك من أمرها شيئاً؛ لذا فهناك ضرورة لتجذر روح المقاومة في شخصية الأمة، فهذا ما يجعلها قادرة على الاستمرار الفاعل في التاريخ، حتى وإن خرجت فترة من دائرة التأثير، فما تلبث أن تعود.
روح المقاومة
جاء في الحديث النبوي الذي رواه الإمام مسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»، فالأمم التي تفقد روح المقاومة تلك التي تميز شخصيتها؛ فإنها تكون سهلة الانقياد، لا تمتلك مقومات الصمود أمام أي هزيمة أو انكسار، ولا تتمكن من ترميم جراحها.
وقد ذكر منظر الحرب صن تزو في كتابه «فن الحرب» أن «التفوق الأسمى هو كسر مقاومة العدو بغير قتال»، ففي تلك الحالة تكون شخصية الأمة ضعيفة مهتزة سريعة الانهيار، وربما غير قابلة للترميم، وغير مرتبطة بغايات سامية تتجاوز العناصر المادية.
ولعل هذا ما أدرك أهميته ملك السويد في القرن السابع عشر الميلادي غوستافوس أدولفوس بخصوص صلابة القوة المعنوية، قائلاً: «إن السويديين لا يدافعون عن رجالهم بالجدران، بل يدافعون عن أسوارهم بالرجال»، فصلابة الرجال قد تكون أقوى من صلابة الأسوار، فـ«السلاح بضاربه لا بحده فقط»، وتحفل تجربة الإنسان التاريخية بتأكيد هذا المعنى، فهناك شعوب قوية صلبة، لا تقف أمام الكوارث والهزائم موقف العاجز المستسلم، ولكنها تقاوم الهزيمة والإخفاق، وتسعى لتغييره إلى نصر، أو تكبيد عدوها خسائر تذهب ببهجة انتصاره.
والحقيقة أن الحفاظ على القوة النفسية وروح المقاومة أمر ذو أهمية في أي أمة، في كتابه، الصادر قبل أربعة عقود، بعنوان «عندما تموت الأمم» (When Nations Die)، يرى مؤلفه جيم نيلسون بلاك أن المجتمعات العظيمة تنشأ من مجموعة فريدة من العادات والسلوكيات والمعتقدات، وأن أكثر تلك المجتمعات ديمومة في التاريخ، هي تلك التي نجحت في الحفاظ على تقاليدها العظيمة، وأي مجتمع يغفل عن سبب وجوده، ينحدر إلى الفوضى.
القوة المعنوية
قوة الشعوب والأمم النفسية لها حساباتها في الحروب، وليست شيئاً ثانوياً أو هامشياً، ومنذ قديم قال نابليون: إن الحرب تتطلب من القوة المعنوية ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تطلبه من القوة المادية، فتلك الروح العظيمة الأبية التي تحملها بعض الشعوب والأمم، هي قوة يُخشى بأسها، ولهذا كان الجنرال كلاوزفيتز يرى أن تحطيم قوة عدو ما يتطلب جهداً يتناسب مع قوة مقاومة ذلك العدو، وأرجع كلاوزفيتز قوة تلك المقاومة إلى عاملين مهمين، وفرة الإمكانات، وقوة الإرادة.
وفي كتابه «تأملات في تاريخ الرومان» للفيلسوف مونتيسكيو، والصادر عام 1748م، رؤية عميقة حول أسباب قوة الرومان وسيطرتهم على أغلب العالم، ثم اضمحلال قوتهم، ومما ذكره أن الخمول يضع حداً للطموحات، وأن الانتصارات السريعة تفسد الأخلاق، أما الانتصارات التي تأتي بعد جهد، تخلق ثقافة وأخلاقاً قوية مُؤَسسة على تجربة، وأن المقاومة تخلق حالة تأهب مستمر، والشعوب التي لا تعرف الراحة تكون قوية، وأنه عندما تنهزم أمة، قد لا يضرها الهزيمة المادية، بقدر ما يضرها أثر الهزيمة المعنوي.
فالمقاومة تكون ضرورة في بعض الأحيان حتى لا تصاب الأمة بالعجز والذل، أما الشعوب التي لا تجرب من نفسها إلا العجز، يكون تأثرها مثل تأثر الأطفال والنساء؛ البكاء والانهيار، شعوب تتعلق بمخاوفها، وتفقد كل ملاذ في لحظة اليأس، واليائس يخشى كل شيء.
إذا كانت القوة المادية هي المتغير الأهم في السياسة العالمية وفي حسابات القوة العسكرية، فإن هناك قوة لا تخضع لتلك المؤشرات المادية، وهي القوة النفسية والمعنوية للشعوب، فقد تمتلك بعض الأمم قوة ضخمة، ولكن تنهزم أمام أمة أخرى لأسباب متعددة، ومن بينها فقدان القوة المعنوية وروح المقاومة، ويمدنا التاريخ بتجارب متعددة في هذا الشأن، ومن ذلك «حرب الأفيون» في القرن التاسع عشر، بين بريطانيا والصين، حيث زرعت بريطانيا الأفيون في الهند، وأخذت تهرب كميات ضخمة منه للصين، وتستبدل به البضائع والسلع، فكانت تهرب 12 طناً سنوياً، وكانت هذه الكمية تكفي لإمداد ثلاثة ملايين مدمن ليبقوا في حالة سكر دائم، أدى ذلك إلى تآكل 20% من ثروة الصين خلال السنوات من عام 1828م حتى 1836م، وعندما أخذت الصين في محاربة الأفيون، كان الأفيون قد أضعف الصينيين، واستطاعت 16 سفينة حربية بريطانية أن تقود احتلال المدن الساحلية الصينية عام 1839م، لتضطر الحكومة الصينية إلى الاستسلام عام 1842م، ودفع تعويضات ضخمة، وبعد 15 عاماً فرضت بريطانيا على الصين الحق في بيع الأفيون علناً في جميع أنحائها.
كانت الصين في ذلك الوقت قوة عظيمة، فمثلاً كان الجيش الصيني يتكون من 800 ألف جندي، مقابل 7 آلاف جندي بريطاني فقط هم الذين خاضوا الحرب واحتلوا الصين، وكان تعداد الصين يفوق تعداد بريطانيا بأكثر من 13 مرة، ولكن ضعف روح المقاومة وغياب الصلابة جعل هذا الكم الضخم من الإمكانات المادية لا قيمة له.
وهنا نستحضر مقولة الثائر المصلح جمال الدين الأفغاني لتحريض الأمة الهندية للثورة على الاحتلال البريطاني، فقال: «لو تحول الهنود إلى ضفادع لتمكنوا من جر الجزيرة البريطانية إلى أعماق البحار»، كان تعداد الهنود يزيد على تعداد بريطانيا بعشر مرات، لكن روح المقاومة كانت غائبة فدفعوا الضريبة القاسية من حريتهم وكرامتهم.
روح المقاومة في الأمة تحتاج إلى رعاية وابتعاد عما يدمرها، ولعل هذا ما أشار إليه الشيخ محمد الغزالي في أول كتبه «الإسلام وأضاعنا الاقتصادية» حين قال: «إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مضيّع منهوك، وأقلها يمرح في نعيم الملوك».