خلق الله تعالى الكون وجعل فيه نواميس وسننًا تحكمه، هذه النواميس لا تجامل أحدًا من الخلق بحال ولو كان نبيًا، ومن بين هذه السنن سُنة النصر والتمكين لعباد الله المؤمنين، حيث جعل لها أسبابًا مسطرةً في وحيه، إن أخذ بها المسلمون غَلبوا وانتصروا، وإن تخلوا عنها غُلِبوا وهزموا ولو كان قائدَ الميدان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، من بين هذه الأسباب:
1- اليقين الجازم بأن النصر مِنْ عند الله وحده:
قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126)، لا من عند شرق ملحد ولا غرب كافر، فمهما طلبت الأمة النصرة من عند غير الله هزمت، إذ إنه من المحال عقلًا أن ينصر الكفرُ إسلامًا، أو أن ينصر الشرك توحيدًا، اللهم إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط، قال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء).
فالنصر والعزة ابتداء وانتهاء بيد الله عز وجل، يهبهما الله لمن يشاء ويصرفهما عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل، قال الله تعالى: وقال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران: 160).
2- تحقيق الإيمان بالله تعالى:
قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، وقال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).
فمن المعلوم قطعًا أن الله قد أخذ على نفسه العهد بنصرة المؤمنين، ولكن هل هذه الهزائم المتوالية على أمة الإسلام تعني أننا لسنا مؤمنين؟ بالقطع لا.. ولكن لا بد أن نعلم أن الإيمان إيمانان، فقد سأل رجل الحسن البصري عن إيمانه، فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، والجنة والنار، والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) (الأنفال) فوالله ما أدري أنا منهم أو لا(1).
ومن هنا نفهم أن أمتنا وإن كانت قد حققت المعنى الأول بجدارة، فإنها حتمًا قد أخفقت في الثاني، لذا مُنيت بهذه النكبات والهزائم.
3- المداومة على العبادة والذكر والعمل الصالح:
فما أوجدنا سبحانه في هذا الكون إلا لهذه الغاية العظيمة، فمن أتى بها على مراده سبحانه، فاز بوعده الذي لا يخلف؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).
كان صلاح الدين يتفقد أحوال الجند ليلًا، فوجد خيمة أهلها يتلون كتاب الله آناء الليل وهم ساجدون فقال: «من هنا يأتي النصر»، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45).
وقالت جولدا مائير، رئيسة وزراء «إسرائيل» الهالكة: لن ينتصر علينا المسلمون إلا إذا كان عدد المصلِّين في صلاة الفجر كعدد المصلين في صلاة الجمعة(2).
4- التمسك بتعاليم الإسلام:
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ولِيَّ الإسلامِ وأهلِهِ، مسِّكْنِي بالإسلامِ حتى ألقاكَ عليْهِ»، وإنما يتحقق ذلك بتنفيذ الأمر واجتناب النهي والوقوف عند الحد، وهذا معنى نصرة الله كما في قوله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، فكلما اعتز المسلمون بدينهم؛ وُفقوا للنصر، وألقى الله مهابتهم في قلوب أعدائهم، وكلما فرطوا فيه، ولهثوا وراء تعاليم الشرق والغرب؛ تجرأ الأعداء، ونزعت مهابتهم من القلوب، لهذا قال الفاروق عمر رضي الله عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله».
وهذا ما جعل موشي ديان، وزير الدفاع «الإسرائيلي» الهالك يقول: حقاً سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً، ولكن إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قِيَمه الحضارية، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم «إسرائيل».
5- الاتحاد الإسلامي العالمي:
فالاتحاد قوة وشوكة، والتشرذم ضعف وهوان، وديننا يأمرنا دومًا بالاتحاد ونبذ الفرقة، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، وقال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
ولقد وعى أعداؤنا هذا المعنى فعملوا على قطع أواصر الترابط بيننا وشعارهم «فرّق تسُدْ»، وقد نجحوا في ذلك على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة، فربنا واحد، وديننا واحد، وقرآننا واحد، ورسولنا واحد، وقبلتنا واحدة، في حين أنك ترى هذه الدول الغربية الكافرة قد أقامت الاتحادات المشتركة بينها، فأسواقهم واحده، وعملتهم واحدة، وجيوشهم واحدة، وهويتهم واحدة، على الرغم من العدوات والخلافات العميقة بينهم.
6- الإعداد الشامل:
قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال 60)، ويفهم من قوله تعالى: «من قوة» كل ألوان القوة التي توصل إلى النصر والتمكين، على قدر المستطاع كالقوة البشرية، والقوة السياسية، والقوة الدبلوماسية، والقوة الصناعية، والقوة العلمية، وعلى رأسها القوة العسكرية.
«فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب فما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب»(4).
7- رفع راية الجهاد:
فما ضعفت أمتُنا واحتُلت أرْضُها ودُنّست مقدساتُها إلا يوم أن تركت الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتُم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزرعِ، وتركتمُ الجهادَ؛ سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دِينِكم».
لما كان فتح القسطنطينية حملَ رجلٌ على الروم، فتعجب أناس وقالوا: يلقي بيديْهِ إلى التَّهلُكةِ، فقالَ أبو أيُّوبَ: لمَّا نصرَ اللَّهُ نبيَّهُ، وأظْهرَ الإسلامَ قلنا: هلمَّ نقيمُ في أموالِنا ونصلحُها، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، فالإلقاءُ بالأيدي إلى التَّهلُكةِ أن نقيمَ في أموالِنا ونُصلِحَها وندَعَ الجِهادَ؛ فلَم يزَل أبو أيُّوبَ يجاهِدُ في سبيلِ اللَّهِ حتَّى دفنَ بالقسطنطينيَّةِ(5).
8- الإخلاص في الجهاد:
فما يخرج للجهاد حمية، ولا سمعة، ولا رياءً، وإنما طلبًا للشهادة وطعمًا في الجنان، لتكون كلمة الله هي العليا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
لقد حاصر مسلمة بن عبدالملك حصنًا وكان في ذلك الحصن ثقب، فندب الناس إلى دخوله، فما دخله أحد، فجاء رجل من عامة الجيش فدخله ففتحه الله عليه، فأراد مسلمة أن يعرفه فامتنع، فلما ألح عليه مسلمة بعث إليه برجل فقال لمسلمة: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثًا: ألا تسوِّدوا اسمه في صحيفة؛ ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو(7).
9- الشجاعة والثبات عند لقاء العدو:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45)، فمن عوامل النصر الشجاعة والثبات عند اللقاء.
جاء رجل الى البراء بن عازب فقال له: يا أبا عمارة، وليتم يوم حنين؟ فقال: لا والله ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على بغلته البيضاء، وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب».
وفي ذلك قال سيدنا عليّ بن أبي طالب: كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم؛ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى ملك فارس: أسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة(8).
10- الدعاء:
ومن أعظم وأقوى عوامل النصر الاستغاثة بالله تعالى لأنه القوي القادر على هزيمة أعدائه، ونصر أوليائه، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9).
وفي غزوة «بدر» نظر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه من منكبيه.
وفي «الأحزاب» قال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم».
وبعد، فهذه أسباب عشرة، في أنوار الوحيين مسطرة، وبشواهد التاريخ معطرة، إذا تمسكت بها أمتنا تحققت لها العزة والنصرة.
________________________
(1) دلائل الإيمان، البيهقي.
(2) مذكرات جولدا مائير.
(3) عقيدة الولاء والبراء، إسماعيل المقدم.
(4) تفسير المنار، رشيد رضا.
(5) صحيح سنن أبي داود، الألباني.
(6) عيون الأخبار، ابن قتيبة.
(7) البداية والنهاية، ابن كثير.