مع استمرار العدوان الصهيوني على غزة، وارتفاع عدد الشهداء والمصابين، وفي ظل استهداف المشافي وخروجها من الخدمة، استقبلت مصر مئات الجرحى لعلاجهم في مستشفياتها.
وللتعرف عن قرب حول طبيعة الإصابات، وتعامل المصابين وأهلهم مع ما يتعرضون له من إبادة جماعية، وأسباب صمودهم رغم تتابع الحروب عليهم، التقت «المجتمع» الطبيب المصري محمد إبراهيم، استشاري الجراحة العامة، أحد الأطباء الذي شاركوا في التطوع لعلاج الجرحى والمرضى الفلسطينيين الذين نقلوا للعلاج في مصر.
بداية، كيف شاركت في التطوع لعلاج جرحى العدوان؟
– بالطبع فلسطين قضيتنا الأولى، وهي قضية دينية وإنسانية، وما يحدث هناك لأهلها من قتل وتشريد يدمي القلب، وكل منا يشارك بالقدر الذي يستطيع، وعندما أعلنت وزارة الصحة المصرية فتح باب التطوع للأطباء كنت من بينهم للمشاركة في علاج الجرحى والمصابين من أهل غزة، وبالفعل توجهت إلى مستشفى العريش العام الموجود في مدينة العريش يوم 10 نوفمبر الماضي، ومستشفى العريش واحد من ثلاثة مستشفيات يتم نقل الجرحى والمصابين إليها بعد عملية الفرز التي تتم في المستشفى الميداني، بمعنى أن المصاب ينقل أولاً إلى المستشفى الميداني يتم الكشف عليه، فإن كان بحاجة إلى تدخل جراحي ينقل إلى مستشفى العريش العام أو مستشفى بئر العبد أو مستشفى الشيخ زويد، ويبدأ التعامل الطبي معهم.
هل هناك إقبال من الأطباء على المشاركة في التطوع؟
– منذ بداية الحرب الصهيونية على قطاع غزة، دعت نقابة الأطباء ووزارة الصحة الأطباء الراغبين بالمشاركة في الدعم الطبي للشعب الفلسطيني بأن يتقدموا بطلبات للتطوع، وخلال ساعات كانت طلبات التطوع تنهال على الوزارة والنقابة، وتحدد الوزارة ما تحتاجه من تخصصات، ونظراً للإقبال الكبير على التطوع قررت وزارة الصحة أن تكون مدة التطوع أسبوعاً لكل طبيب، ويعود ليذهب طبيب غيره، وبالتالي يشارك كل الأطباء في هذا العمل، أنا مثلاً شاركت في الفترة ما بين 10 – 17 نوفمبر 2023م، ومن المقرر إن شاء الله أن أذهب مرة أخرى، كل الأطباء الذين رأيتهم هناك كانوا يعملون بإخلاص حتى لو بتقديم دعم نفسي للمرضى والمصابين.
ماذا عن الإمكانات الطبية المتوفرة في المستشفيات المصرية؟
– رغم الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر حالياً، فإن كل القيادات سواء في محافظة شمال سيناء أو في وزارة الصحة كانوا يزورون المستشفى ويؤكدون لنا أن نطلب ما نريد من أدوات ومستلزمات وأدوية، وأنهم سيوفرون كل المطلوب، والحقيقة أن مستشفى العريش العام الذي كنت متواجداً به على درجة عالية من الجودة، ومتوفر به كل الإمكانات المطلوبة.
ماذا عن طبيعة الإصابات التي تعاملت معها؟
– كما أشرت، أنا كنت في المستشفى العريش العام يوم 10 نوفمبر، يعني تقريباً بعد شهر من بداية الحرب على سكان القطاع، ولك أن تتخيل أن هناك مصابين لم يتلقوا الرعاية الطبية منذ تعرضهم للإصابة في بداية العدوان، أو تلقوا إسعافات أولية بسيطة في القطاع نظراً لضعف الإمكانات وقلة المستلزمات، وبالتالي كانت الحالات التي تعاملت معها ليست حديثة، كانت هناك حالات تصل إلى المستشفى وقد حدث لها تعفن شديد في الجروح، وهو أمر يعقّد التدخل الطبي ويؤدي إلى مضاعفات خطيرة للمريض، فالإصابات تحتاج إلى تدخل سريع وإلا يكون تدخلي صعباً وغير مفيد بالدرجة التي نسعى إليها، ونضطر في بعض الحالات إلى بتر الطرف المصاب لصعوبة علاجه، وتأثيره على باقي الجسم قد يؤدي إلى تسمم المريض ووفاته.
ما نوعية الإصابات التي رأيتها؟
– معظم الحالات التي رأيتها لم تكن لديها إصابة واحدة، بل إصابات مركبة، بمعنى أن الشخص يكون مثلاً مصاباً بطلق ناري وفي الوقت نفسه به كسور وحروق مثلاً، وبالتالي يكون الأمر معقداً جداً، ولاحظت أن أغلب الإصابات يبدو فيها قصد القتل أو العاهة الدائمة، فالإصابات تكون في العمود الفقري وهي تؤدي إلى الشلل حتى مع علاج الإصابة، أو إصابات في الأطراف لبترها.
وهناك إصابات تعرضت للدهس أو انهارت عليها المنازل، لكن أود أن أنبه هنا إلى أن الحالات التي نقلت للعلاج في مصر لا تتجاوز 1% من الذين يحتاجون إلى العلاج، والصهاينة يتحكمون في معبر رفح من الجهة الفلسطينية ويمارسون البلطجة على الفلسطينيين، وسبق لهم أن قصفوا سيارة إسعاف وسيارة كانت تحمل مياهاً.
ما أعمار المصابين الذين تعاملت معهم؟
– الأغلبية العظمى من المصابين كانوا أطفالاً، وكانت إصاباتهم مختلفة؛ ما بين جروح نتيجة انهيار وقع عليهم من خلال قصف منازلهم، أو دهس أو حروق، وكانت نسبت الحروق تتجاوز الـ70% في الكثير من الحالات.
هل حكى لكم المرضى أو مرافقوهم كيف تعرضوا للإصابة؟
– الإصابات يبدو فيها الاستهداف، وأغلب المصابين تعرضوا لإصابات نتيجة استهداف الأحياء التي يسكنون فيها، فقد حكى لي بعض المصابين أنهم فجأة انهار المنزل عليهم بعد قصف عنيف للحي كله، وهذا القصف لا ينتج عنه هدم المنازل فقط، وإنما يؤدي إلى اشتعال النيران وحدوث انفجارات عنيفة.
ناهيك عن الإصابات المباشرة، فهناك مصاب شاب حكى لي أنه كان خارجاً من بيته فوجد قوة من الجيش الصهيوني في وجهه وطلبوا منه التوقف؛ فاستجاب لهم، ورغم ذلك أطلقوا الرصاص عليه، بل أصابوه في عموده الفقري كأنهم يقصدون إصابته بعاهة مستمرة، وهو الآن مصاب بالشلل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هناك شاب آخر رأيته في المستشفى، كان يعمل سائقاً لسيارة إسعاف، أصيب أثناء نقل أحد المصابين، قال لي: إنه تم استهداف سيارة الإسعاف وقتل كل من فيها؛ المسعف والجريح ومرافقه، ولم ينج من الاستهداف سواه.
كيف رأيت حال مصابي غزة؟
– رغم المآسي التي سمعتها من المصابين ومرافقيهم، فإنني رأيت منهم ثباتاً وإيماناً لم أره في حياتي، لم أسمع منهم سوى «الحمد لله»، ولديهم ثقة كبيرة في الله تعالى، وأنهم مأجورون على ما يحدث معهم، وسيعودون إلى أرضهم ويعمرون ما تم تدميره، كان هناك طفل عمره تقريباً 8 سنوات، أصيب بحروق في ظهره، وفقد ذراعيه، وهذا الطفل كان جميلاً سبحان الله! ودائم الابتسام، فكنت أواسيه، لكنه فاجأني وقال لي: إنه لا يريد أي مواساة؛ لأنه في اختبار من الله، ويعرف أن الله سيجازيه خيراً عما تعرض له! سألت هذا الطفل يوماً: هل يفضل العودة إلى غزة أم الإقامة في أي دولة أخرى؟ فقال لي: إنه لا يعرف مكاناً غير غزة، وأقسم أنه سيعود إلى أرضه مهما طال الزمن.
هل تحدثت معهم أكثر عن سر هذا الصمود؟
– لا يعرف المرء قوة إيمانه إلا بالاختبار، وكل أحاديثي مع المصابين ومرافقيهم كانت دليلاً على ذلك، وهناك حكايات سمعتها من المصابين أو مرافقيهم لو حكاها لي أحد لقلت: إنه يبالغ، فرغم الإصابات الشديدة وفقدان الأحباب والأبناء والآباء، ترى في عيونهم قوة عجيبة، ناس منّ الله عليهم بالإيمان والرضا بشكل غير طبيعي، فمثلاً التقيت بامرأة مات زوجها وأولادها كلهم إلا واحداً، وهو مصاب بجروح نسبتها 80%، ورغم ذلك لا تقول إلا «الحمد لله»، ولا نرى منها إلا رضا وصبراً.
ما أكثر المشاهد التي أثرت فيك أثناء التعامل مع الجرحى؟
– كل المشاهد كانت لها تأثير كبير علينا كأطباء، كل مريض تسمع منه قصة تراجيدية يكتب عنها آلاف الكتب في الصبر والصمود وقوة الإيمان، التقيت رجلاً صبوراً محتسباً، مات كل أفراد عائلته نحو 16 شخصاً، عاد إلى بيته فوجد الجيش الصهيوني قد قصفه فمات كل من كانوا فيه إلا ابنته عمرها تقريبا 15 عاماً، مصابة بحروق شديدة تقريباً 60%، ورغم كل ما مر به هذا الرجل لم أجد منه قنوطاً، بل كله أمل أن يعود إلى بيته ويعمره من جديد، كان يقول لي: هذه أرضنا ولم نتركها لأحد، وسنعود إلى شمال القطاع وسنبني البيت مرة أخرى.