الرجل الذي كان يوصي إخوانه وأتباعه بقوله: «أن تجدد التوبة والاستغفار دائماً، وأن تتحرز من صغائر الآثام فضلاً عن كبارها، وأن تجعل لنفسك ساعة قبل النوم تحاسبها فيها على ما عملت من خير أو شر».
إن مثل هذا الرجل لم يكن ليوصي غيره بعمل يغفل هو عنه، بل كان رحمه الله خير من يترجم أقواله إلى أفعال، حتى جاءت أفعاله صورة صادقة تعكس أقواله وتجسدها في عالم الحقيقة وميدان العمل.
فقد كان الإمام حسن البنا شديد المحاسبة لنفسه، كثير الاتهام لها بالتقصير، على كثرة ما كان يبذله ويقدمه في ميادين الدعوة، وضروب العمل، ولو عمل غيره معشار ما عمله هو لملأ الدنيا ضجيجاً ودعاية وإعلاناً، لكنه كان غير أولئك، وآثر أن يسير على هَدْي الأولين في المحاسبة والاتهام، فقد ذكر عبدالحليم الوشاحي، المسؤول عن أرشيف المعلومات في المركز العام، ما كتبه البنا في سجل مذكراته التي كان يسجل فيها حوادث اليوم، التي تمر به في يومه، فيقول: «وبعد تردد، اطلعت على ما كتبه الإمام في نهاية إحدى حفلات الإخوان ولقاءاتهم، فإذا به قد كتب: «في هذه الليلة أبلغ من العمر أربعين عاماً هجرياً، كما أخبرني والدي.. الآن، وأنا قائم بالدعوة إلى الله، أجدني مقصراً فيما فعلت، فلا بد لي من الاهتمام بأورادي، ولا تشغلني مشاغل الدعوة عنها، ولا بد من الإعداد والتحضير لحديث الثلاثاء، ففي ذلك خير كثير.. ولا بد كذا.. ولا بد كذا..»، فصار يحاسب نفسه حساباً شديداً عسيراً».
وهذا يؤكد ضرورة الأخذ بنهج الأولين في محاسبة النفس، والوقوف على عثراتها، والتشدد في اتهامها بالتقصير، وعدم الاغترار أو العجب بالجهد الذي تبذله، وإن كان كبيراً عظيماً في أعين الناس، فليس المهم الناس، بل الأهم من ذلك هو أنت، المطلع على حقيقة نفسك.
ولا يجوز للداعية أنى كان موقعه في الدعوة إلى الله أن يغفل عن الالتفات إلى نفسه ومحاسبتها، وعليه ألا يطمئن إليها كثيراً، وعليه أيضاً أن يحذر كل الحذر من أن يستغرقه النشاط الحركي التنظيمي في الدعوة، فتراه متنقلاً في حركة دائبة ومستمرة، من لقاء إلى آخر، ومن حفل إلى محاضرة وهكذا؛ فينسى في هذا الازدحام التنظيمي نفسه، التي لم تعد تجد متسعاً من الوقت للمحافظة على الأوراد والأذكار، وجلسات المحاسبة والاستغفار، وخلوات الذكر والصفاء؛ فتكون عندئذ المصيبة الكبرى، أن يتحول الداعية إلى آلية يحركها برنامج، أو إلى جسد تحكمه خطة، ونحن في الحقيقة نريد لداعيتنا أن يكون روحاً تحلق في فضاءاتها البرامج، وتسبح في سمائها الخطط، عندها فقط تدب الحياة، وتتجسد معانيها، بكل ما فيها من حركة ونشاط وحيوية في برامجنا وخططنا التي حتماً سنراها تدب على الأرض ساعية.
تماماً كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي لم تشغله أمور الحكم، وقضايا الدولة، وحاجات الرعية، عن نفسه تهذيباً وتربية وصقلاً، فقد كان لا ينام ليلاً أو نهاراً، فقيل له في ذلك، فقال: كيف أنام؛ وأنا إن نمت نهاراً أضعت الرعية، وإن نمت ليلاً ضيعت أمر ربي؟
فهذا هو المنهج القويم، الذي تجسد في حياة إمامنا الشهيد رحمه الله وهو يصل ليله بنهاره، في حقول الدعوة، وبالرغم من ذلك لم يغفل عن تزكية نفسه، ومحاسبتها محاسبة شديدة، بل واتهامها بالتقصير والضعف.
فما أحرانا أن نكون ذلك الرجل الذي له سهمه الفاعل في ضروب الدعوة وميادينها، وسهمه الكامل في محرابه صلاة وتبتلاً ومناجاة واستغفاراً ومحاسبة.