في إحدى المنتديات القرآنية عبر الإنترنت، وردت قصة، بدأت أحداثها يوم أن قرر الوالد أن يسافر إلى إحدى البلاد، وترك زوجته وأولاده الثلاثة، وكان هذا الوالد يتمتع بين أولاده بالكثير من الحب والاحترام والمودة، وكان يصعب عليهم فراقه، ولذلك طلبوا منه أن يرسل لهم يومياً رسالة، لكي يظلوا دوماً على تواصل، وبالفعل بعد أن سافر الأب بعدة أيام بدأ في إرسال أول رسالة لزوجته وأبنائه، فرح الأبناء كثيراً برسالة والدهم، وأخذوا يقبلونها وفي داخلهم شوق عظيم إلى والدهم، ولكن لم يحاول أحد منهم أن يفتح الرسالة ويقرأها، لكنهم فقط اكتفوا بتقبيلها ووضعها في صندوق رائع، والاحتفاظ بها في مكتبة المنزل الكبيرة، وكان الأبناء كل يوم ينظرون إليها ويمسحون التراب من عليها ويعيدونها في مكانها من جديد دون قراءتها، وهم يرددون أن أباهم هو أغلى وأجمل أب في الوجود.
وهكذا تعامل الأبناء مع كافة رسائل الأب الأخرى التي أرسلها لهم على مدار سنوات عديدة، يقبّلون الرسائل ويحتفظون بها في صندوق غال، ويكتفون بتنظيفها ومسح التراب من عليها بشكل يومي دون محاولة قراءتها أو التعرف على ما بداخلها.
مضت السنوات وعاد الأب من السفر ليجد أسرته لم يتبق منها سوى ابن واحد فقط، اندهش الأب من حال الأسرة وسأل ابنه: أين أمك؟ فقال الابن: لقد أصابها مرض خطير ولم يكن لدينا ما يكفي من المال للإنفاق على علاجها، فظلت تعاني من المرض حتى توفاها الله عز وجل، تعجب الأب من كلام الابن! وسأله: لماذا لم تعطوها من المال الكثير الذي قمت بإرساله لكم في أول رسالة؟! رد الابن: لم نره ولم نفتح الرسالة.
سأله الأب: أين أخوك؟ رد الابن: لقد تعرف على بعض رفاق السوء ولم يجد من ينصحه خاصة بعد وفاة أمي، فذهب معهم ولم يعد من يومها، اندهش الأب قائلاً: لماذا فعل هذا وأنا قد نصحته كثيراً أن يبتعد عن رفاق السوء في رسائلي؟! حزن الرجل كثيراً وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وأين أختك؟ رد الابن: لقد تزوجَتْ ذلك الشاب الذي حدثتك عنه من قبل، وهي الآن تعاني معه مرار العيش وفي أشد التعاسة، انفجر الأب صارخاً، وقال: ولماذا تزوَّجَتْه؟ ألم تقرأ هي الأخرى رسالتي التي نصحتها فيها بألا تتزوج هذا الشاب، وأن تنتظر من يخاف الله عز وجل، وترضَى دينه وخلقه؟! نظر الابن إلى الأرض في خجل وقال: لم نقرأ الرسائل يا أبي، بل قمنا بوضعها في هذا الصندوق، كنا دوماً نقبلها ونمجدها، ولكننا لم نحاول أبداً قراءتها ومعرفة محتواها.
فلننظر إلى حال تلك الأسرة، وما حدث لها، وكيف تشتت شملها، كل هذا بسبب أنها لم تكلّف نفسها يوماً أن تحاول قراءة رسائل والدها ومعرفة فحواها، إنما اكتفت فقط بتمجيدها ووضعها في صندوق غالٍ وتنظيفها من التراب يومياً.
هذه هي حال الكثير منا في تعاملنا مع رسائل الله سبحانه وتعالى إلينا -ولله المثل الأعلى- وهو مثل حال الأبناء مع رسائل والدهم، ولله المثل الأعلى.
نحن ننظر كل يوم إلى المصاحف، نكتفي بتمجيدها وتقبيلها ووضعها في علبة غالية ونمسح عليها التراب كل يوم، ولكن من منا يحاول قراءتها وتدبرها والعمل بما فيها؟!
إننا إذا هجرنا تلاوة القرآن الكريم؛ فإن ذلك يؤثر سلباً على علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى، وعلاقتنا بأنفسنا والناس من حولنا.
وهذه بعض الأخطار التي يتعرض لها من يهجر قراءة القرآن الكريم:
أولاً: الإعراض عن أمر الله تعالى:
لقد أمر الله عز وجل بتلاوة القرآن الكريم، في قوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ) (الكهف: 27)، وقوله سبحانه: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) (العنكبوت: 45)، وقوله أيضاً: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) (النمل)، وقوله عز وجل: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: 4)، فمن قرأ القرآن فقد استجاب لأمر ربه، ومن لم يقرأ فقد أعرض عنه.
ثانياً: تحمل الأوزار:
إن الله تعالى أوضح أن من هجر القرآن الكريم فإنه يحمل الأوزار، حيث قال تعالى: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً) (طه).
ثالثاً: الحرمان من السكينة والرحمة:
إن قراءة القرآن تجلب السكينة والرحمة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ»، فمن قرأ القرآن نال هذه السكينة، ومن هجر تلاوته حُرِم منها.
رابعاً: قسوة القلب:
قراءة القرآن ترقق القلوب المؤمنة، فهي تطمئن بذكر الله: حيث قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وروى البيهقي عن أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «لَوْ أَنَّ قُلُوبَنَا طَهُرَتْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ رَبِّنَا، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ على يَوْمٌ لَا أَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ»(1)، فإذا كانت قراءة القرآن ترقق القلوب وتشفيها؛ فإن هَجْره يقسي القلوب ويشقيها.
خامساً: المعيشة الضنك والعذاب في الآخرة:
أوضح الله سبحانه وتعالى أن المعرضين عن ذكر الله في معيشة ضنك في الدنيا وعذاب في الآخرة، قال عز وجل: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه).
سادساً: خسران الاستشفاء بالقرآن:
قراءة القرآن تشفي الصدور، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57)، وقال عز وجل: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82)، وقال سبحانه: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (فصلت: 44)، وكان رسول الله صلى عليه وسلم يقرأ من القرآن على نفسه، وعلى المريض من أهله: المعوذات، فلولا أن ذلك ينفع لم يفعله، حيث روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا».
سابعاً: الحرمان من الأجر العظيم:
قراءة القرآن لها أجر عظيم وثواب جزيل، حيث قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ {29} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر)، وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قرأَ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ آلم حرفٌ، ولَكِن ألِفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ»، فإذا كان الثواب الجزيل مترتباً على قراءة الكلمات والحروف؛ فإن هاجر القرآن محروم من هذا الأجر العظيم.
ثامناً: الابتعاد عن الله:
قال ابن رجب: «وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَسَمَاعُهُ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ لِرَجُلٍ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ»(2).
تاسعاً: التهيئة لسلطان الشيطان:
إن الشيطان ليس له سلطان على أهل الإيمان والقرآن، قال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) (الإسراء: 45)، وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة»، وروى ابن حبان في صحيحه، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام».
عاشراً: الحرمان من شفاعة القرآن يوم القيامة:
في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ»، وفي مسند أحمد عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه، يقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ»، وروى ابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القرآنُ شافعٌ مشفَّعٌ، وماحِلٌ (أي: شاهد) مصدَّقٌ، من جَعلَه أمامَه قادَه إلى الجنَّةِ، ومن جعلَه خَلفَ ظهرِه ساقَه إلى النَّارِ».
فعلينا أن نحافظ على قراءة القرآن الكريم، حتى نفوز بثمرة تلاوته، وننجو من هجره، فلا تصيبنا شكوى رسولنا صلى الله عليه وسلم، التي قال فيها ربنا تبارك وتعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30).
__________________________
(1) الأسماء والصفات، البيهقي (1/ 593).
(2) جامع العلوم والحكم (2/ 342).