معلومٌ أن حركة النفاق بدأت في المدينة المنورة، بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وتصاعدت حركة المنافقين بعد غزوة «بدر»، حيث انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فيها، فبدأ المنافقون يشعرون بالخطر من تزايد قوة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار دعوته، وهنا بدأ كثير من الذين كانوا يكرهون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم يضطرون إلى إظهار الإسلام مع إخفائهم الكفر جُبناً وخداعًا.
كيف انخذل المنافقون في غزوة «أُحد»؟
أكدت كتب السيرة النبوية أنه في شوال من العام الثالث للهجرة النبوية، وردت الأنباء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين خرجوا من مكة يريدون قتال المسلمين، وأنهم عسكروا عند جبل أُحد، وهنا جمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للمشاورة، ثم أعلمهم الخبر، وقال لهم: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا فقد أَقَامُوا بِشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا».
وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرَى رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَلَّا يَخْرَجَ إلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ.
فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ «أُحُدٍ» وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ «بَدْرٌ»: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُخْرُجْ بِنَا إلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا؟
فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تخرج إِلَيْهِم، فوالله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا فقد أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرِّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ، وَرَمَاهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا فقد رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاؤوا.
فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وتحرك إلى «أُحُد»، فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ و«أُحُدٍ»، انْخَذلَ عَنْهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ(1).
قال ابن إسحاق: فناداهم الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن حرام، وكان خزرجيًا من قوم عبدالله بن أُبي، فناشدهم أن يرجعوا للقتال، فأبوا، فقال: يا قوم، أذكركم الله، لا تخذلوا قومكم ونبيكم عند مَن حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنه قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه(2).
قال ابن كثير: وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران: 167)؛ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الْقِتَالِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ وَلَا شَكَّ فِيهِ(3).
وكان أصحاب النبي ﷺ قد انقسموا تجاه أمر المنافقين إلى فريقين؛ فريق يقول: نقاتلهم، وفريق يقول: لا نقاتلهم، فنزل قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء: 88)(4)، وفي الآية توجيه إلى المؤمنين ألا ينقسموا تجاه المنافقين، بل يجب أن يكونوا فريقًا واحدًا ضد هؤلاء المنافقين، وأن يتبرؤوا منهم؛ لأن الله أركسهم؛ يعني نكسهم في الكفر، وجعلهم مغموسين في النفاق بسبب ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة.
لماذا انخذل المنافقون في غزوة «أُحد»؟
إن القارئ لموقف هؤلاء المنافقين يجد أن انخذالهم عن القتال في سبيل الله في غزوة «أُحد» راجع إلى أسباب متعددة، منها:
أولاً: خبث النفس:
إن نفوس المنافقين خبيثة، تنطوي على الجبن والخوف والخداع والمكر والمراوغة والكبر والغرور، ويظهر هذا كله في أقوال عبدالله بن أبي بن سلول، حيث يبرر رفضه الخروج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أطاع أصحابه وعصاه، مع أنه يعلم يقينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى نفس رأيه، لكن الشورى قد استقرت بها أغلبية الآراء على الخروج، وقد احترم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وأقر به، لكن المنافقين لا يثبتون أمام المبادئ، بل يسعون وراء الرغبات، ويحبون أن تكون لهم الصدارة في كل شيء، كما تظهر المراوغة والمكر في قولهم: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، مع أنهم يوقنون بوقوع القتال، لكنه المكر والخداع والفرار من مواقف الرجولة والبطولة.
ثانياً: الاستهانة بمستقبل الإسلام:
إن الناظر إلى حال المشركين وما أعدوه من تجهيزات عسكرية وخروج إلى القتال واقتراب من المدينة المنورة، بما يدل على عزمهم على القتال والثأر لما حدث لهم في غزوة «بدر»، الناظر إلى هذا كله يوقن أن الأمر جد، وأن الموقف صعب، وأن المعركة قائمة والقتال قادم، فإذا كان المنافقون يعيشون هذا المشهد ويرونه رأي العين، ثم يتعمدون الانسحاب في بداية المعركة، وإشاعة الهزيمة النفسية بين المسلمين، فإن في هذا دلالة قاطعة على استهانتهم بمستقبل الإسلام والمسلمين، بل فيه ما يدل على التآمر على هذه الدعوة ورسولها صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: تمحيص الصف المسلم:
ففي هذا الموقف تمحيص وتنقية للصف المسلم من المنافقين، وتمييز للخبيث من الطيب، وقد قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ {166} وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران)، وقال عزو جل: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: 179)، إنه الابتلاء الذي يمحص الله به الناس، ويكشف عن معادنهم وإيمانهم بربهم أو كفرهم به.
إن الله تعالى قد ابتلى المؤمنين في غزوة «أُحد» بانخذال المنافقين وانسحابهم في أول المعركة، حتى يكشف للمؤمنين حقيقة المنافقين، ويجلّي صورتهم الخبيثة ونفسيتهم الدنيئة، وليعلم المؤمنون أن هذه الدعوة المباركة لا تنتصر إلا على أيدي المؤمنين الصادقين، فليعمل العاملون لذلك، حتى يأتي الله بنصره.
_______________________
(1) السيرة النبوية، ابن هشام (2/ 63).
(2) سيرة ابن إسحاق (3/ 304).
(3) البداية والنهاية، ابن كثير (3/ 27).
(4) رواه البخاري (4050)، ومسلم (7208).