الأحد 31 مارس الماضي، وبعد مرور أكثر من 170 يومًا من بدء العدوان الصهيوني على غزة، خرج رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو يعترف بخسارة «إسرائيل» المعركة أمام الرأي العام الدولي، قائلاً: «تنقصنا الطاقات والكفاءات أمام هذا الطوفـان العالمي، ومنهم مليار مسلم يعملون على شبكات التواصل».
والحقيقة، أن ما اعترف به نتنياهو، وهو ثقيل على كيان تعوّد أن يجد الدعم من متنفذي المشهد الدولي، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو غيرهما؛ يدفعنا للتساؤل عن أسباب فشل الرواية الصهيونية، مقابل اكتساب الرواية الفلسطينية مزيدًا من الدعم والمساندة والمصداقية.
ولعلنا نلاحظ ابتداءً أن وسائل الإعلام الغربية، وذات الثقل الدولي، قد تخندقت في بداية العدوان ولشهور تالية مع الرواية الصهيونية وتماهت معها، لدرجة غابت عنها أبجديات العمل الإعلامي؛ من التأني، وتأكيد الخبر بأكثر من مصدر، وعرض الرأي الآخر، إلى غير ذلك من مبادئ لطالما عدَّها الغرب من أخلاقيات العمل الإعلامي، وذات صلة من ناحية أخرى بحقوق الإنسان لاسيما في أوقات الحروب والأزمات.
لكن كل ذلك تبخر منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها عملية «طوفان الأقصى»، التي بمجرد وقوعها سارع الغرب؛ سياسيين وإعلاميين، إلى ترديد مزاعم «إسرائيل» عن «حقها في الدفاع عن النفس»، واستبطان أن التاريخ يبدأ من يوم السابع من أكتوبر، ليصبح كل ما سبقه من عقود احتلال وتدمير وحصار لا قيمة له!
لاحقًا، وبفضل صمود المقاومة وشعبها على الأرض، وقدرة الرواية الفلسطينية على انتزاع مساحات جديدة، رغم ما فُرض عليها من الحصار والتضييق في وسائل الإعلام التقليدية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «فيسبوك»، ستضطر بعض وسائل الإعلام لمراجعة موقفها المتماهي مع الرواية الصهيونية، وستحاول أن تستعيد بعضًا مما فقدته من مصداقية، وآخر ذلك ما أقرت به «بي بي سي» عن ارتكاب «خطأ» في تغطيتها لمرافعات محكمة العدل الدولية التي تُتهم فيها «إسرائيل» بقضية الإبادة الجماعية؛ حيث عرضت «بي بي سي» الدفاع «الإسرائيلي» بأكمله، في حين بثَّت فقط أجزاءً من الحجج المضادة لها من طرف جنوب أفريقيا.
ويمكن أن نلاحظ أن ثمة أسبابًا متداخلة تقف وراء فشل الرواية الصهيونية، نشير إلى 3 منها فقط، مما يتعلق بالسلوك «الإسرائيلي»؛ حتى يتبين أن هذا السلوك بعدوانيته وإجرامه وتهافت روايته، كان له النصيب الأكبر في إبطال نفسه، وفي أن ترتد مزاعمه إلى صدره فضيحةً وخيبةً!
مبالغة الكيان الصهيوني في العدوان
كان متوقعًا أن الكيان الصهيوني لن يقف مكتوف الأيدي، بعد أن تلقى بـ«طوفان الأقصى» ضربة موجعة مزلزلة، مثَّلت ليس فقط مجرد هزيمة للكيان في إحدى جولات صراعه مع غزة بمختلف فصائل مقاومتها، وإنما هزيمة أحدثت شرخًا عميقًا للعقيدة العسكرية والأمنية «الإسرائيلية» لم يحدث من قبل، والأشد أن ذلك جاء من فصائل مقاوِمة وليس من جيش دولة يمكن أن تكون الهزيمة أمامه متفهَّمة ومبرَّرة، بأي وجه كان.
فبقدر ما تلقت «إسرائيل» من ضربة في «طوفان الأقصى»، بقدر ما حرصت على أن يكون رد فعلها موغلاً في إجرامه، مسفًا في تنكيله، ذاهبًا إلى أبعد مدى في استخدام القوة المفرطة (ولا ننسى تهديد أحد وزراء الكيان بضرب غزة بقنبلة نووية!).
وهذا الإفراط الجنوني، الذي نتج عنه تدمير غير مسبوق بالقطاع، وفي مختلف مرافقه وأحيائه (وصل إلى 80% في بعض التقديرات)؛ جعل رواية الكيان عن الحق في الدفاع عن النفس، وعن الرد على ما حدث يوم السابع، رواية متهافتة غير مقبولة؛ بحيث لم يستطع الكيان أن يغادر خانة الجاني إلى خانة الضحية؛ تلك الخانة التي يفضِّلها دومًا ويحرص على تثبيتها في الوعي العام داخل الكيان وخارجه؛ وبالتالي يوظفها لابتزاز الآخرين بها، وتبرير أي سلوك يتخذه الكيان، حتى لو كان اغتيالاً خارج حدوده.
فمهما حدث يوم السابع، فهو يتصف بأمرين مهمين ينسفان الرواية الصهيونية؛ الأول: أنه عمل مشروع، يمارسه أصحاب الحق والأرض ضد احتلال ليست له أي شرعية فيما يسمى بـ«الدفاع عن النفس»، الثاني: أن التاريخ لم يبدأ يوم السابع، وإنما يمتد إلى ما قبله منذ نكبة عام 1948م وهزيمة عام 1967م، بما في هذه السنوات من عدوان وقتل وتهجير وحصار واغتيال، إلى غير ذلك مما لم يفوته الاحتلال من وسائل التنكيل والتضييق.
استهداف المرافق المدنية
لم يفرِّق الكيان الصهيوني في رده على «طوفان الأقصى»، بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، حتى طبقًا لقواعد الاشتباك في الحروب؛ مثل عدم استهداف المدنيين، وصيانة المرافق المدنية من المدارس والمستشفيات وغير ذلك.
«إسرائيل» لم تتعود على هذه التفرقة طوال سنوات احتلالها، لكن انكشافها أخلاقيًّا هذه المرة كان أكثر وضوحًا من ذي قبل؛ إذ بات جليًّا تعمدها استهداف المدارس وأماكن اللجوء والمستشفيات، واتباعها سياسة القتل الممنهج بالحصار والتجويع ومنع الدواء، وذلك تحت مزاعم شتى لم تستطع إثبات أيٍّ منها!
وكمثال، جاء اقتحام الكيان الصهيوني «مجمع الشفاء» مرتين، بفاصل زمني 4 أشهر تقريبًا، ليكشف الوجه القبيح للكيان، وتهافت مزاعمه عن استخدام المقاومة للمجمع ووجود أنفاق بالأسفل منه، ولم يستطع الكيان حتى بعد اقتحامه أن يثبت مزاعمه باستخدام المقاومة المجمع للاختباء فيه أو اتخاذه مقرًّا لإدارة عملياتها.
وأما بعد الاقتحام الثاني للمجمع، ثم الانسحاب منه (فجر الإثنين 1 أبريل)، بعد نحو أسبوعين من الحصار؛ فقد أزيح الستار عن سلوك إجرامي غير مسبوق للكيان؛ الذي مارس في المجمع وفي محيطه الإعدام الميداني (قتل أكثر من 1500 فلسطيني، بحسب المرصد الأورومتوسطي)، واستهداف أفراد من الأطباء والأطقم الطبية (الطبيبة يسرى المقادمة، ونجلها الطبيب أحمد المقادمة)؛ فضلاً عن تدمير وإحراق مباني المجمع مما أدى إلى خروجه بالكامل عن الخدمة.
إزاء هذا الدمار والإجرام والقتل والتنكيل، والاستهداف المباشر، ومحاصرة المرضى، والتمثيل بالجثث، وتركها في العراء، واعتقال المدنيين وتصويرهم عراة.. هل يمكن أن ينجح تصريح أو بيان «إسرائيلي»، أو حملة علاقة عامة؛ في غسل كل هذا العار، ومواصلة خداع الرأي العام!
تهافت السردية الصهيونية
لم يستطع الكيان الصهيوني أن يقدِّم سردية مقنعة حتى لمن يريدون أن يصدقوه! وكلما قدَّم سردية سرعان ما يتضح كذبها وتهافتها، وربما يحدث هذا بفعل الصحافة «الإسرائيلية» نفسها، كما حدث فيما أفاده تقرير لصحيفة «هاآرتس» العبرية، بأن مسلحي حركة «حماس» لم يكونوا يعرفون مسبقًا بالحفل الذي قُتل فيه 367 شخصًا قرب قاعدة «رعيم» بغلاف غزة، ولكنهم تصرفوا بشكل تلقائي، ووفق الصحيفة «الإسرائيلية»، فإن مصدرًا في الشرطة أشار إلى أن مروحية تابعة للجيش «الإسرائيلي»، وصلت لمكان الحادث، وأطلقت النار على مقاتلي «حماس»، ويبدو أنها أصابت أيضًا بعض الجمهور والمشاركين في الحفل؛ أي أن «هاآرتس» تكفّلت بتفنيد الرواية «الإسرائيلية» عن وحشية «حماس» وارتكابها القتل الجماعي لأبرياء جاؤوا للاحتفال!
والأمر نفسه تكرر مع مزاعم قتل «حماس» 40 طفلاً وقطع رؤوسهم (الرئيس الأمريكي ردّد ذلك، ثم البيت الأبيض تراجع ضمنيًّا عن تصريحات بايدن)، أو ارتكاب مقاتلي «حماس» حوادث اغتصاب وعنف جنسي في مستوطنات غزة، في أعقاب معركة «طوفان الأقصى» (لم تقدم «إسرائيل» شهادة تؤكد ذلك).
إن سردية واحدة عن وحشية المقاومة، أو اتخاذها مدنيين دروعًا بشرية، أو ممارستها عنفًا جنسيًّا، أو سرقة المعونات، أو غير ذلك من أكاذيب صهيونية؛ لم تصمد أمام أي تساؤل أو تحليل!
فهذا الفشل الذي منيت به الرواية الصهيونية لا يعود فحسب إلى صدقية الرواية المقابلة للمقاومة؛ وإنما يعود أيضًا لتهافت رواية الاحتلال وكذبها وفقدانها التماسك الذاتي!
فشل رواية.. أم انكشاف وعجز؟!
وبالإضافة إلى ذلك، لنا أن نتساءل: أكان الأمر حقًّا فشلَ روايةٍ أمام «طوفان عالمي» كما عبَّر نتنياهو، عما واجههم من رأي عالم دولي، شارك فيه مليار مسلم، أم إن المسألة لها وجه آخر يراد التقليل منه، بلفت الأذهان إلى شيء آخر، ولو كان له قدر كبير من الفاعلية؟!
الحقيقة، أننا لسنا بصدد انتصار رواية على رواية فحسب، وإنما بالأساس بصدد انكشاف سياسة الاحتلال وعجزه عن تحقيق أي نصر سوى الإمعان في النيل من المدنيين وحرق الأرض ومن عليها.
نحن بصدد انتصار إرادة مقاومة مشروعة وبطولة مستحقة، على احتلال غاصب غاشم؛ يقتل ويكذب، ولم يَسْلم منه حجر ولا شجر ولا بشر!