هجرتها بعدما كنت متعوداً مرافقتها سنوات طوالاً، تذكرتها وأنا غارق أسير لهاتفي لا يفارق يدي ولا فكري، نسيتها ونسيت لحظات خلوات بربي وأنا ممسك بها مغمض عيني لاهجاً بالذكر دامع العين وجدتني أستبدل هاتفي بها؛ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: 61)، ونستغفر الله تعالى من حالنا ومن تقصيرنا، استغفرت ربي ونويت توبة وعودة إلى ربي متخلصاً من ملازمتي لهاتفي.
ما أروعها من خلوة لا جليس إلا رب العباد! خلوة ترفع صاحبها وتزكيه وتقربه من خالقه، بل وتثلج الصدر وتريح الفؤاد، وتريحنا من دنس الدنيا وزحامها وضجيجها إلى جنة الدنيا جنة الذكر.
لقد استبدلنا بخلوتنا خلوة أخرى مع هذا الجوال؛ من محادثات وتعارف وأصدقاء جدد ومتابعتهم وعالم الصفحات والانبهار بالإعجابات، وبدلاً من أن نسكب دموعنا خشية وخشوعاً، صرنا نسكبها أسفاً وندماً على خسارة «لايكات» وقلة إعجابات!
هذا هو السِّرُّ
كان ابن المبارك مرفوع الذّكر عند الناس لنقاء سريرته، وخفاء طاعاته وبكائه، يقول أحد تلاميذه: سافرت مع عبدالله بن المبارك فرأيته في السفر فقلت: سبحان الله! يصلي كصلاتنا، ويقرأ كقراءتنا، ويصوم كصيامنا، ورفع الله له الذكر الحسن في الناس، ورفع الله له مكانته في العالمين، فبماذا؟
قال: فدخلنا حجرة ونحن مسافرون فانطفأ السراج علينا، فذهبنا نلتمس سراجاً نستضيء به، فأتينا ابن المبارك بعد ساعة بالسراج فإذا هو في الظلام يبكي ودموعه تتحدر من رأس لحيته.
قلنا: ما لك يا أبا عبدالرحمن؟
قال: والله لقد ذكرت القبر بهذه الغرفة المظلمة الضيقة فكيف بالقبر؟
ويقول صاحب «الرحيق المختوم»: «وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ.. دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله».
ما أروع ما قاله د. علي الصلابي: «كانت هذه الخلوة الَّتي حُببت إلى نفس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لوناً من الإعداد الخاصِّ، وتصفية النَّفس من علائق المادِّيَّة البشريَّة، إلى جانب تعهُّده الخاص بالتَّربية الإلهيَّة، والتَّأديب الرَّبَّانيِّ في جميع أحواله، وكان تعبُّده صلى الله عليه وسلم قبل النُّبوَّة بالتفكُّر في بديع ملكوت السَّموات، والنَّظر في آياته الكونيَّة الدَّالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره».
ويوصينا ابن الجوزي بالعزلة فيقول: «فيا للعزلة ما ألذها! فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر المخالطة كفى».
وهنا يقول صاحب «الظلال»: «لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت»، إلى أن يقول: «فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره، أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس».
مجرد وجوده في المكان يؤثر على قدراتك
في إطار دراسة أجريت مع ما يقارب 800 مستخدم للهواتف الذكية في محاولة لقياس مدى قدرة الأشخاص على إكمال مهامهم عندما يكون بجانبهم هواتفهم الذكية حتى في حالة عدم استخدامها، وقد طلب الباحثون من المشاركين في الدراسة الجلوس على جهاز كمبيوتر وإجراء سلسلة من الاختبارات التي تتطلب تركيزًا كاملاً من أجل الحصول على نتيجة جيدة.
كانت النتائج إلى أن مجرد وجود الهاتف الذكي يقلل من القدرة المعرفية المتاحة ويضعف الأداء المعرفي، على الرغم من الشعور أنهم يولون اهتمامهم الكامل وتركيزهم على المهمة المطروحة.
كما أفادت دراسة استقصائية أجرتها جمعية علم النفس الأمريكية بأن الأشخاص الذين يفحصون هواتفهم باستمرار يعانون من مستويات ضغط أعلى من أولئك الذين يقومون بذلك بوتيرة أقل بالإضافة إلى إلحاق الضرر بقدرتهم على التركيز.
ارحل عن هاتفك
ارحل عن هاتفك، وقلّل من ساعات التعامل معه، ولازم مسبحتك؛ تنَل هدوءاً نفسياً وعصبياً فيكون الطريق إلى ربك أسهل وأقرب.