كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن بدايات سيرة داعية الإسلام الأكبر في أفريقيا في العصر الحديث الشيخ عثمان دان فوديو، فذكرنا اسمه ونسبه ومولده وأسرته وتعليمه وبدايات دعوته ورحلته في ذلك حتى ذاع صيته.
وفي هذا المقال، نستعرض ممهدات انتقال تجربته الإصلاحية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الصدام مع ملوك غوبر التي كانت بمثابة نواة لتكوين دولته.
محاولة اغتياله وشرارة التحول في تاريخ دعوته
وفد على الشيخ وفود من الشرق والغرب، وقدم إليه سائر علماء وقته في كل أقطار بلاد الهوسا مؤيدين له، حتى قلق الملوك من شهرته وتوسع نفوذه في قلوب الناس، وأولهم ملك غوبر باوا، فحاول إغراءه بالمال والعطايا ليكون في عهدته، لكن الشيخ لم ينسَق وراءه، وصرح بأن دخوله عليه لأجل الوعظ فحسب، فبلغ ذلك في نفس باوا مبلغًا حتى قرر اغتيال الشيخ، وفي يوم عيد الأضحى عام 1204هـ/ 1789م كما يحكي الألوري فيقول: «فأرسل إلى الشيخ يومًا يطلب حضوره إلى مدينة الملك ليفتيه في مسألة خطيرة، فذهب الشيخ إليه ومعه صديقه عمر الكموني وأخوه عبدالله، فلما دخلوا عليه أقعدهم في إحدى غرف قصره وغافلهم حتى أطلق عليهم الرصاص فجأة وعلى غرة، ولكن الله رد كيده في نحره، فرجعت إليه النار بإذن الله فارتمى على الأرض ولم يصب مقتله، ثم دنا منهم وهو يعتذر إليهم ويستميحهم، فأغلظوا له القول وخرجوا من قصره إلى بلدهم سالمين وهم يشكرون الله على هذه الكرامة الباهرة(1).
وحينها دفع الملك إلى الشيخ 500 مثقالًا من ذهب تعويضًا له، فأبى ذلك، فاضطر الملك للتفاوض معه تأجيلًا للصدام القادم لا محالة، وأسفرت تلك المفاوضات عن شروط مهمة، منها: أن يحترم الملك أصحاب العمائم -يعني العلماء- وأن يطلق سراح المسجونين من الدعاة، وألا يقف في طريق أي كيانات أو أفراد تريد اللحاق بدعوة الشيخ، وأن يمتنع عن فرض الضرائب الباهظة على الرعية(2).
وكما نرى في ثنايا هذه الشروط أنها ليست مما يرغب فيها الشيخ تحقيق مصلحة شخصية دنيوية؛ وإنما هي مكاسب لعموم المسلمين، ولهذا فقد آتت أُكلها في تعزيز مكانته في قلوب الناس، وهو ما زاد من عدد أنصاره، وبقيت الحال كذلك إلى أن مات باوا، وأكمل الكيد للدعوة من بعده ابنه أيكب، ثم نافانا الذي بلغ في عهده العداء إلى سفور لم يُسبق.
عداء ملوك غوبر للدعوة
في ظل انتشار دعوة الشيخ وانتصاب ملوك غوبر للحد من ذلك، أصدر الملك نافانا مرسومًا نودي به في الأسواق، يقول محمد بلو بن الشيخ عثمان: «فلم يرعنا إلا نذير أمير غوبر نافانا بثلاثة أمور:
1- أنه لم يرض لأحد أن يعظ الناس إلا الشيخ وحده.
2- ولم يرض لأحد بالإسلام إلا وارثه من آبائه، ومن لم يرث الإسلام فليعد إلى ما وجد عليه آباءه وأجداده.
3- وألا يتعمم أحد بعد اليوم، ولا تضرب امرأة بخمارها على جيبها(3).
ثم لم يلبث إلى أن مات، ولم تنفذ مشيئته، وولي من بعده ابنه يُنفا، الذي كان أحد تلاميذ الشيخ، فوعده بأن يلغي مرسوم والده ويطلق يد الدعوة بلا تضييق، ثم ظهر أن ذلك لم يكن إلا مراوغة لكسب الوقت حتى يستتب له الحكم(4)، فوجدت الدعوة من ينفا أسوأ من كل ما وجدته ممن سبقه من ملوك غوبر، وقد اجتهد في ذلك بجد ومفاجأة، فغزا قرية في منطقة غنيبا كان يستوطنها الشيخ عبدالسلام الفلاني، أحد أتباع الشيخ عثمان، بعد فراره وأهله وأتباعه من بطش ينفا، وغافلهم جيشه فقتل من قرائها وفقهائها وعوامها ما شاء الله، ونهب أموالهم وسبى ذراريهم، بل وافترش جنوده المصاحف وألواح القرآن وأشعلوا فيها النيران، وكل ذلك في نهار رمضان(5)!
الهجرة وترتيب صفوف الجماعة
ثم عرض جيش ينفا إلى القرية التي يسكنها الشيخ في منطقة دُغل وأبلغوه برسالة من الملك مفادها أن ينحاز بأهله وإخوانه وأبنائه لأنه يريد الهجوم على القرية، فأبى الشيخ إلا أن يهاجر بجماعته جميعًا، ولما بلغ رده الملكَ أخبره بتراجعه عن نية الهجوم وطالبه بالمكوث، لكن الشيخ قد علم أن ذلك من خططه للقضاء على جماعته فصمم على الهجرة، فهاجر عام 1218هـ/ 1804م إلى مدينة غُدُ(6) وأعانه وحماه في ذلك صاحبه الفقيه أغال التاركي وأصحابه التوارك.
وكثر المنحازون إلى الشيخ من غوبر بل ومن سائر بلاد الهوسا(7)، حتى أرعب ذلك الملك وشعر بفداحة خطأه في أمر الشيخ بالخروج، وبات يعلم أن التخلص منه الآن صار أصعب كثيرًا من ذي قبل وقتما كان في سلطانه، فطالب الشيخ بالرجوع ثانية إلى محله دغل، فأرسل الشيخ إليه جوابه بالرفض حتى يتوب من ذنوبه ويرجع إلى أصول الإسلام الصحيحة ويرد ما سلبه من جماعته(8)، وقُرئ الجواب على الملك في حضور وزرائه وعلماء السوء الموافقين له، فشاورهم في ذلك فأفتوه بقتال الشيخ وجماعته وأعلموه أنه كان على حق فيما فعله سابقًا، وفورًا قطع الملكُ الطريق على كل من يريد الالتحاق بالشيخ، وأصدر أوامره بمصادرة أموال كل من هاجر معه، وقتل كل من يحاول الهجرة إليه، ومن جراء ذلك قُتل كثير من أتباع الشيخ ونهبت أموالهم(9).
إعلان الحرب عليه
لم يكن يرغب الشيخ في بلوغ الأمر إلى هذا الحد؛ ويؤيد ذلك هديه في الدعوة السلمية في عهود سائر ملوك غوبر قبل ينفا، لكنه لم يجد بداً من الصدام لا سيما وقد أرسل إليه الملك يعلن الحرب عليه، وحينما علمت جماعة الشيخ بذلك اتفقوا على مبايعته على طاعة الله ورسوله والاعتصام بالكتاب والسُّنة ورد عادية ينفا، وتأولوا في ذلك قوله تعالى: (وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103)(10).
وفي المقال القادم، بإذن الله، نتعرض لأخبار هذا الصراع، الذي أثمر أخيرًا بتكوين دولة صكتو الإسلامية التي تحتفظ بقدر من وجودها حتى الآن في شمال نيجيريا.
_______________________
(1) الإسلام في نيجيريا، الإلوري، ص153.
(2) لمحات عن تاريخ الإسلام في نيجيريا بين الأمس واليوم، علي أيوب ناجي، ص65.
(3) إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، محمد بللو، ص60.
(4) حركة الشيخ عثمان بن فودي الإصلاحية في غرب أفريقيا وآثارها الدينية، عبدالله عبد الرزاق إبراهيم، ص242.
(5) إنفاق الميسور، ص61.
(6) تحديدًا في يوم 12 ذي القعدة الموافق 21 فبراير، حيث يبجل أهل شمال نيجيريا هذا اليوم حتى وقتنا هذا، ويطلقون عليه «يوم الهجرة»، يراجع: الإسلام في نيجيريا، عبدالرحمن زكي، معهد الدراسات الشرقية.
(7) تزيين الورقات، عبدالله بن فودي، ص55.
(8) الإسلام في نيجيريا، الإلوري، ص155.
(9) تنبيه الإخوان على أحوال أهل السودان، عثمان بن فودي، ص29.
(10) وضح الشيخ ذلك وشيئًا من أحكامه في كتابه: المسائل المهمة التي يحتاج إلى معرفتها أهل السودان، ص188.