الناظر في شعيرة الحج يجد أن مظاهر العزة الإسلامية فيها واضحة جلية، ويمكن الحديث عن بعضها فيما يأتي:
أولاً: التجمع في مكان واحد:
يجتمع المسلمون في البلد الحرام لأداء المناسك بصورة لا يمكن لأمة أن تفعلها سوى أمة الإسلام، فالملايين من المسلمين يطوفون حول الكعبة، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون بعرفات، ويرمون الجمرات، في إطار من المودة والامتنان لله تعالى، وهذا التجمع يعلن عن قوة المسلمين وعزتهم.
ثانياً: الدعوة إلى إظهار القوة البدنية في أداء المناسك:
حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم عند الطواف بالكعبة المشرفة على الاضطباع والرمل؛ أما الاضطباع فهو أن يجعل الرجل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وأطرافه على عاتقه الأيسر، ويكشف منكبه الأيمن من أول الطواف إلى آخره، ويدل على استحبابه ما رواه ابن ماجه، والترمذي، وأحمد عن يعلى بن أمية قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر حضرمي.
أما الرمَل، بتحريك الميم؛ فهو يعني الهرولة، يعني السرعة في المشي مع هز الكتف، ويكون في الأشواط الثلاثة الأولى، ويدل على استحبابه ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا.
كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رفع الصوت بالتلبية، وهو مستحب للرجال، لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أي الحج أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «العج، والثج»؛ والعج هو رفع الصوت بالتلبية باعتدال.
ففي هذه الأعمال إظهار للقوة البدنية، وقد كشفت السُّنة النبوية عن السبب في ذلك، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ».
والشاهد من الحديث أن هذه الأعمال إنما قصد منها الرسول صلى الله عليه وسلم إظهار القوة والعزة للإسلام وأهله.
ثالثاً: القوة النفسية في الحج:
فريضة الحج تجمع الناس من أماكن مختلفة، ولهم طباع مختلفة، وسلوكيات مختلفة، فمنهم الغني والفقير والرئيس والمرؤوس، والمتعالي والمجادل والمتعصب والانطوائي والاجتماعي والمتمرد والكريم والبخيل وغير ذلك من الصفات والأحوال، ومع ذلك لا يسمح لأحد بالتعدي أو التطاول على غيره، بل هناك تهذيب كامل للنفس وخروج عن سلطان العادة.
ومن هنا كانت فريضة الحج لها أثر كبير في البناء النفسي للإنسان، وقد قرر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)؛ ففي الآية نهي عن لغو الكلام وسوء السلوك.
فالحاج ينتقل من السلوك السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، كأنه في دورة تدريبية لتنمية الذات وتطوير السلوك، وهذا دليل على القوة النفسية التي تؤكد عظمة الإسلام وعزته.
رابعاً: توفير الأمن:
في فريضة الحج تشريعات تؤكد تميز الإسلام بالعظمة والعزة والقوة في توفير الأمن للناس، حيث جعل الله تعالى البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، فقال عز وجل: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة: 125)، وقال سبحانه: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص: 57)، فالمسلم آمن على نفسه وآمن على متاعه، بل إن الأمن متوفر للطيور والأشجار أيضاً، فقد نهى الإسلام عن قتل طير الحرم، ونهى عن قطع شجره، حتى يعم الأمن كل شيء.