بفاصل يومين فقط من عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، خرج وزير الدفاع الصهيوني يوآف جالانت، (الإثنين 9 أكتوبر)، ليعلن بأنه أصدر أمرًا بفرض «حصار كامل» على غزة، مضيفًا: لقد أعطيت أمرًا؛ غزة ستكون تحت حصار تام؛ لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق.
وفي الحقيقة، هذا التصريح الذي توعّد به جالانت، بعدما استفاقوا على زلزال عنيف غير مسبوق، وجهته المقاومة للكيان الصهيوني المتغطرس؛ إنما يمثل سياسة ثابتة لهذا الاحتلال الغاشم، وليس مجرد رد فعل على صفعة عملية «طوفان الأقصى»، وإن جاءت هذه السياسة على نحو مكشوف تمامًا هذه المرة.
عداء لكل أصحاب الأرض
«إسرائيل» هي احتلال استيطاني غاشم، يهدف إلى تهجير السكان وفرض سيطرته دون شريك، ولهذا فهو ينطلق من موقف عدائي لجميع سكان الأرض المحتلة، ويعمل على إبادتهم ومحو وجودهم، وليس فقط السيطرة عليهم وإخضاعهم لمخططاته، بخلاف ما عُرف عن أنواع أخرى من احتلال غير إحلالي.
وهذ الموقف العدائي المترسخ في الرؤية الصهيونية يجعل الكيان لا يفرق بين مقاومين ومسالمين، ولا بين قادة مقاومة وشرائح أخرى من المجتمع، قد لا تكون بالضرورة متطابقة بالكامل مع موقف المقاومة، فالجميع بنظر الاحتلال الصهيوني غير مستحق للحياة، ولا لأي حقوق!
ومن ناحية أخرى، فإن الاحتلال يهدف من خلال سياسته في العقاب الجماعي إلى رفع كلفة المقاومة على المجتمع ككل، وإلى ممارسة الضغط على المقاومة من خلال إرهاق حاضنتها الشعبية.
المدنيون هم الطرف الأسهل من ناحية الاستهداف بالنسبة للاحتلال الغاشم، فما يعجز الاحتلال عنه في ميدان المواجهة، يريد أن يعوضه من خلال الضغط على المقاومة، وذلك باستهداف حاضنتها الشعبية، وتدمير البنى التحتية والمنازل والمدارس والمستشفيات؛ بالمخالفة التامة للقانون الدولي الذي يضع للحرب أخلاقًا وأعرافًا، ويحفظ للمدنيين حقوقهم.
إذن، الكيان الصهيوني يريد من خلال سياسته في العقاب الجماعي تحقيق أكثر من هدف، وينطلق من موقف عدائي ثابت لكل أصحاب الأرض.
مظاهر العقاب الجماعي
من خلال سلوك الاحتلال بعد عملية «طوفان الأقصى»، بل ومن خلال عقود الاحتلال منذ إنشاء الكيان الغاصب، يمكن ملاحظة عدة مظاهر لسياسته في العقاب الجماعي، تتمثل فيما يلي:
1- منع الطعام والشراب والدواء والاحتياجات الأساسية عن جميع السكان، وقد تركز هذا بشكل أكبر على مدار الـ18 عامًا الأخيرة؛ فقد مارس الاحتلال ذلك على قطاع غزة منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006م؛ فيما بدا عقابًا جماعيًّا على سلوك ديمقراطي من كيان يزعم أنه الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة!
2- تدمير البنية التحتية من المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء؛ بحيث يجعل الحياة مستحيلة لمن يرفضون التهجير أو ينحازون لخيار المقاومة.
3- استهداف المدنيين وبأعداد كبيرة ومجازر بشعة، بزعم ملاحقة المقاومين؛ وذلك بالرغم من مفاخرة الكيان الصهيوني بامتلاكه صواريخ موجهة وقنابل ذكية تحقق الهدف وبأقل الخسائر! ولعل السجال الذي وقع مؤخرًا بين الإدارة الأمريكية والكيان بشأن تسليم قنابل تزيد على ألفَيْ رطل، قد كشف عما يعانيه سكان غزة من القوة الغاشمة المفرطة، التي تمثل في الحقيقة عقابًا جماعيًّا وانتقامًا كليًّا من أهل غزة، وليس مجرد وسيلة موجهة ضد المقاومين.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد اعترف (الأربعاء 8 مايو) أن «إسرائيل» استخدمت القنابل الأمريكية لقتل المدنيين الفلسطينيين، وقال خلال مقابلة مع شبكة «سي إن إن» عندما سئل عما إذا كانت القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل التي أرسلت إلى «إسرائيل» قد قتلت مدنيين: لقد قُتل مدنيون في غزة نتيجة لتلك القنابل وغيرها من الطرق التي يستهدفون بها المراكز السكانية.
محرقة رفح
وهنا نشير إلى أن الاحتلال حينما هاجم مخيمات النازحين في رفح (الأحد 26 مايو)، فيما عُرف بـ«محرقة رفح»، قد ارتكب مجزرة مروعة من خلال استخدامه قنابل تزن 250 رطلاً؛ أي ربع حجم القنبلة المحظورة!
وكشفت شبكة «سي إن إن» الأمريكية، في تحليل لها عن استخدام دولة الاحتلال لقنابل أمريكية في الهجوم الذي استهدف خيام النازحين داخل رفح، وقال تقرير الشبكة: إن الجيش «الإسرائيلي» استخدم قنبلة من طراز «جي بي يو-39» خلال الهجوم على مخيمات النازحين في منطقة تل السلطان، وهو الهجوم الذي أدى لاستشهاد 46 فلسطينيًا وإصابة 110 آخرين.
وأدى الاستهداف الصهيوني لمخيمات النازحين لاندلاع حريق كبير في مناطق إيواء النازحين؛ ما أسفر عن وقوع عدد من الشهداء غالبيتهم من الأطفال والنساء، وتحول جثامين عدد كبير منهم إلى أشلاء، حيث وجد المنقذون أجسادًا بلا رؤوس.
وفي هذا الصدد أيضًا، يندرج ما أسفر عنه العدوان الصهيوني من قتل 36379 شهيداً، والأرقام مرشحة للتصاعد يوميًّا، منهم، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الـفلسطيني، 492 من الطواقم الطبية، و147 من الصحافة، و152 من موظفي «الأونروا»، و69 من الدفاع المدني.
فهذا الاستهداف الواسع لجميع سكان القطاع ولمختلف شرائح العاملين به، يؤكد ما يتبعه الاحتلال من سياسة العقاب الجماعي، حتى ضد الفئات التي من المفترض أنها محمية بالقانون والأعراف الدولية؛ مثل الأطباء والصحفيين وموظفي المؤسسات الأممية!
صمود مذهل
لكن ما لم يدركه الاحتلال الصهيوني، أو ما لا يود أن يعترف به، أنه يواجه شعبًا بأكمله لا مجموعة من الفصائل! وأنه كما ينطلق في سياسته من العداء لجميع أصحاب الأرض، فإن من الطبيعي أن يكون رد الفعل مكافئًا لهذا الفعل؛ فيتحول كل أصحاب الأرض إلى مقاومين، حتى لو لم يحملوا جميعًا السلاح ويندرجوا ضمن صفوف المقاومة، فالتمسك بالأرض ورفض التهجير هو نوع من المقاومة، لا يقل عمن يحمل السلاح ويقدم روحه فداء لأرضه ومقدساته.
والمفارقة، أن المحتل الغاصب دائم التركيز على أن مشكلته هي مع فصائل المقاومة، وقد يخصص بعضها في ظرف ما بالعداء والعدوان، وقد يمعن في الخداع فيعلن أنه حريص على حياة الشعب ولا مشكلة له معه، لكن الحقيقة أن مشكلته هي مع كل الشعب الفلسطيني وليس مع الفصائل، وأن الفصائل تعبر عن حقيقة موقف الشعب في تمسكه بأرضه وحقوقه، وليست منفصلة عنه.
لقد وصل الشعب الفلسطيني لدرجة من الوعي والصمود، بما لا تفلح أكاذيب الاحتلال في التمويه عليه، ولذا فهو مصمم على حقوقه، ومتشبث بأرضه، ومعتز بمقاومته، وقد جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتفضح الاحتلال الغاصب في سياسته الغاشمة وأكاذيبه المفضوحة؛ ولتجدد الموقف الثابت للشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه ومقدساته، رغم ما يقع عليه من عدوان وتدمير وانتهاكات، جراء سياسة العقاب الجماعي التي لم يكف الاحتلال عن استخدامها يومًا ما.