أنشئت المؤسسات الدينية في الدولة الوطنية المعاصرة لتمثل طابع المجتمع المسلم في بلادنا، ولتحافظ على هوية تلك المجتمعات الإسلامية التي تنتمي إلى دين الإسلام، وينتمي غالب ساكنيها إليه، فحين نتكلم عن الهوية الوطنية في البلاد العربية؛ فهي الهوية الإسلامية في المقام الأول، التي تعبر عن غالب انتماء أهله، وإن وجدت انتماءات دينية أخرى، فقد كفلها الإسلام والقانون لأهلها، وهذا ما وجد دستوراً في كتاب الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256).
وليس بصحيح أن تمثل الهوية الوطنية في بلاد المسلمين أنها لا تنتمي إلى الإسلام، أو لا اعتبار للإسلام فيها، فتلك مغالطة كبرى من بعض المفكرين المنتسبين إلى الإسلام اسماً، وإلى الحضارة الغربية هوى وعقلاً، وثمة فرق كبير بين بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين من ناحية الهوية.
المؤسسات الدينية في بلاد المسلمين لها دور كبير في ترسيخ الهوية الوطنية
ولا شك أن المؤسسات الدينية في بلاد المسلمين لها دور كبير جداً في ترسيخ الهوية الوطنية، والانتماء إلى أوطاننا المسلمة التي يُعبد فيها الله تعالى ويُذكر فيها اسمه، ويُطبَّق فيها شرعه، ومن أهم معالم مساهمة المؤسسات الدينية في الحفاظ على الهوية الوطنية ما يلي:
أولاً: مسؤولية إقامة الشعائر:
وزارة الأوقاف أو هيئة الشؤون الدينية في بلاد المسلمين تقوم مسؤوليتها على إقامة الشعائر؛ كبناء المساجد وتوفير أماكن العبادة للناس؛ مما يساهم في الاستقرار النفسي للناس تجاه الدولة وقيامها بما يجب عليها من خدمة الناس في ممارسة الشعائر الدينية، ويعزز من الانتماء الوطني للناس من خلال الخدمات المقدمة في الشأن الإسلامي.
فحين يرى الناس أن المساجد عامرة، وأنه يهتم بنظافتها والقيام بشأنها يحمدون للدولة تلك العناية؛ ما يساهم في حفظ النسيج الوطني والحفاظ على الهوية الوطنية للقيام بمسؤولية إقامة الشعائر من الصلاة وتيسير دفع أموال الزكاة ودفعها لمستحقيها تحت إشراف الدولة، وتيسير الذهاب إلى حج بيت الله الحرام وغيرها من الشعائر.
وزارة الأوقاف أو هيئة الشؤون الدينية تقوم مسؤوليتها على إقامة الشعائر
ثانياً: العناية بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية:
كما أن من أهم مسؤولية المؤسسات الدينية في بلادنا العناية بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية من خلال توفير مراكز تعليم القرآن والحلقات القرآنية ومسابقات القرآن الكريم والسُّنة النبوية، والعناية بطباعة المصحف وكتب التفسير وعلوم القرآن وكتب السُّنة وعلوم الحديث، وإنتاج البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تعنى بالتفسير وعلوم القرآن وتلاوته وتجويده، وبرامج السُّنة النبوية؛ فيقبل الناس على القرآن الكريم والسُّنة النبوية، فينهلون من تعاليمهما، التي منها حب الأوطان والانتماء إلى هذا الدين والأرض التي تقوم على أسس هذا الدين.
ولهذا نهى القرآن عن البقاء في بلد لا تقام فيها الشعائر ولا تحترم فيها الحريات ولا يعتنى فيها بكتاب الله تعالى، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء).
ثالثاً: الابتكار في الخدمات الدينية:
فالمؤسسات الدينية تقوم بتقديم خدمات كثيرة للمواطنين، مما يساهم في تعزيز الهوية الوطنية داخل البلد الواحد، ويحقق نوعاً من الرضا عن الأداء الحكومي في تلك البلد؛ ما يحقق الاستقرار فيها بين طوائفها جميعاً، ويوطد العلاقة بين الناس والمسؤولين، وينبغي أن تقوم المؤسسات الدينية بتطوير وابتكار الخدمات التي تقدمها.
من أهم مسؤوليات المؤسسات الدينية في بلادنا العناية بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية
فعلى سبيل المثال، في «خدمة الفتوى» يجب أن تتنوع أشكال وقوالب الفتوى، فلا يكتفى بالذهاب المباشر ولقاء المفتين لاستفتائهم، بل هناك خدمات متطورة، مثل: الفتوى الهاتفية، والفتوى الإلكترونية، كذلك تقديم خدمة طلب منح دراسية في العلوم الإسلامية، وخدمة البحث عن مسجد، وخدمة حجز قاعات بالمساجد للأنشطة الثقافية والدينية، وخدمة الاشتراك في المقرأة الإلكترونية، وخدمة الاشتراك في الحلقات القرآنية، وخدمات المخطوطات والمكتبات، وخدمات التسجيل في الأنشطة الدينية سواء للشباب والفتيات والصغار، والخدمات الدينية الإعلامية، وخدمة تسجيل الحج والعمرة، وخدمات توجيه الناس لدفع أموال الزكاة والصدقات في بيت الزكاة أو المؤسسات المعتمدة من الدولة.
وغيرها من الخدمات التي تتعلق بالشأن الديني ما يجعل الناس يشعرون أن الدولة تهتم بهم وتعتني باحتياجاتهم، بل وتبتكر خدمات ترضيهم؛ مما يولد الاعتزاز بهذا الوطن، ويحافظ على الهوية الوطنية.
رابعاً: المحاضرات والندوات حول الهوية الوطنية:
لا بد أن يُعلم أن بلاد المسلمين مرصودة من قبل أعداء الإسلام، وهم يتلونون بكل لون حتى يفرقوا بين اللحمة الوطنية في المجتمع المسلم، فهم يريدون أن يشعلوا فتيل الاختلاف بين الحكام والمحكومين، وبين الطوائف والمذاهب الفكرية المتنوعة، ولهذا كان واجباً على المؤسسات الدينية أن تقوم بدور الوعي الفكري والسعي نحو عدم الوقوع في فخ التنازع الذي نهانا الله تعالى عنه حين قال: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
وهذه آية عظيمة في معالجة التفرق والاختلاف والتنازع، وترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية، والحفاظ على الهوية الوطنية في بلاد المسلمين، فجعل الله تعالى أصل الاحتكام إليه؛ حكاماً ومحكومين، في قوله: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ)، ثم نهى عن التنازع الذي يؤدي إلى الفشل والانقسام داخل المجتمع الواحد، فقال: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
واجب على المؤسسات الدينية أن تقوم بدور الوعي الفكري وعدم الوقوع في التنازع
ولتكن الدعوة إلى الحفاظ على الهوية الوطنية في بلاد المسلمين من خلال خطب الجمعة والدروس المسجدية والدورات والندوات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية بإشراف المؤسسات الدينية في كل بلد مسلم.
خامساً: فقه التعامل مع غير المسلمين:
وإن من أهم أدوار المؤسسات الدينية توعية الناس بفقه التعامل مع غير المسلمين، وأن غير المسلمين في بلادنا هم جزء من نسيجنا ووحدتنا، وأن الاختلاف في الدين لا يعني التناحر ولا التحارب، وإنما يعني الاحتواء والاحترام والتقدير، والتعاون على البر والتقوى بما فيه النفع الذي يعود على أوطاننا وبلادنا، وقد عبر بعض غير المسلمين في بلادنا بقولهم: أنا مسيحي الديانة، مسلم الهوية، أنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية رغم كوني مسيحياً.
وقد وضع الله تعالى لنا دستور التعامل مع غير المسلمين في آيتين غاية في الروعة والإحكام، لا تحتاجان بعدهما لكثير بيان، هما قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة)، ففرَّق القرآن بين نوعين من غير المسلمين:
الأول: المواطنون من غير المسلمين في بلادنا، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، فنحن وهم في الحقوق والواجبات سواء.
الثاني: غير المسلمين الذين يريدون الشر لأوطاننا، فكان واجباً علينا قتالهم، وأن نحفظ الهوية الوطنية في بلادنا، ولا نسمح أن تمس بسوء؛ حتى نحقق الوحدة الوطنية في بلاد المسلمين.
من أهم أدوار المؤسسات الدينية توعية الناس بفقه التعامل مع غير المسلمين
وليفتخر المسلمون أن أول دستور مدني في التاريخ كان دستور المدينة المنورة، الذي حقق به النبي صلى الله عليه وسلم الوحدة الوطنية بين سكان المدينة جميعهم من المسلمين واليهود والنصارى والوثنين، ومن جميع الإثنيات، من الأوس والخزرج، ومن المهاجرين والأنصار، ومن بقية القبائل العربية الأخرى، فإن كان هناك دين يؤصل للوحدة الوطنية والهوية الإسلامية فالإسلام يأتي أولاً.
وتلك مفاهيم يجب على المؤسسات الدينية في بلادنا أن تسعى لنشرها، وإن كانت وزارات الداخلية تسعى لتحقيق الأمن من خلال محاربة الجريمة، فإن وزارات الأوقاف والمؤسسات الدينية تسعى لتحقيق الأمن من خلال الجانب الفكري، وكلاهما جناحان لا يستغنى عنهما في أي بلد.