ذات يوم من نوفمبر 2011م، وكنت أخطب الجمعة بالتناوب مع الشيخ منصور الرفاعي عبيد، وكيل وزارة الأوقاف، بمسجد الرضوان بشارع نهرو المجاور لحديقة الميريلاند بمصر الجديدة (وهو أحد المساجد التي بناها حسبة لله تعالى المعماري الكبير م. حسن رشدان، يرحمه الله)، وبينما أنا مندمج بكل تركيز في موضوع الخطبة وكان عن الحج، الذي كنا على أبوابه في ذلك الوقت، وبينما أنا أكاد أقول: صبّحكم ومسّاكم! إذ وقعت عيني على د. إبراهيم الفقي بين جمهور المصلين، ومعظمهم من علية القوم.
فقلت على الفور: وقعت عيني الآن على عبقري التنمية البشرية والبرمجة الذهنية العالمي د. إبراهيم الفقي، وسأكتفي بما قلت، ولن أكمل إلا بختام الخطبة والدعاء، على أمل أن يشرفنا د. الفقي بعد الصلاة، بمحاضرة في حدود نصف الساعة، متكرمًا علينا باستخراج برنامج عملي للتنمية المستدامة للفرد والمجتمع من فريضة الحج، التي يظنها البعض رحلة موت، لا قبول لها إلا بتطليق الدنيا، والإعراض عنها، بل وبيعها دون ثمن.
وبعد الصلاة تزاحم الناس بصورة هائلة وبدا نجم د. الفقي في السطوع والتألق، واستوعبت ابتساماته كل الناس، وألقى محاضرة غاية في الجدة والجمال والإبهار، بل واتفق معي أمام الناس على أن أكون محاضرًا شريكًا له من الآن، إلا أنني اعتذرت بشدة، إذ إنني على يقين من أن هذه مجاملة اقتضاها ذوقه الرفيع.
هجرة وجهاد
كنت قد تحدثت في الخطبة عن حكمة فريضة الحج، وأشرت إلى ملامح عامة من سورة «الحج»، ولماذا بدأت بمشاهد القيامة، وختمت بالدعوة إلى الاعتصام بحبل الله تعالى، والحث على الجهاد في سبيله، بل حق الجهاد وعلاقة ذلك بفريضة الحج، وأشرت كذلك إلى الحكمة من تعدد أنواع الحج بين قران وتمتع وإفراد.
ولماذا أجل المصطفى صلى الله عليه وسلم حجه الشريف إلى العام العاشر من الهجرة، رغم فرضية الحج في العام السادس الهجري، وكيف أن الحج هجرة إلى الله تعالى، جهاد في سبيله عز وجل.
وكان ذلك قد استغرق حوالي ربع الساعة، إذ إن عقارب الساعة أثناء الخطبة إنما تدور وتدق داخل رأسي، فضلًا عن أن تكون أمام عيني!
وختمت الخطبة، وصلينا بحمد الله تعالى.
وخف د. الفقي كالغزال الرشيق، ليقف أمام الناس، معرفاً بنفسه بإيجاز، ثم قال للناس: الحج فكرة إيمانية في غاية العمق والرسوخ، وهي فريضة صعبة، ومكلفة، وهي جهاد بنص القرآن والسُّنة، ولذلك لن أسألكم متى نحج؟!
لأن ذلك متعلق بالاستطاعة، وهي سر خاص بكل شخص، لكنني سأسألكم: لماذا نحج؟!
لأن ذلك متعلق بفهم الفكرة، ومدى الإيمان بها، والرغبة في تحقيقها، والتضحية من أجلها، مهما كلفنا ذلك من مال، أو متاعب، أو هجرة، أو مشقة.
وبدأ يتلقى إجابات سريعة موجزة ومركزة، وكانت إجابات الناس كالتالي: لكمال الإسلام، لأن الإسلام خمسة أركان أصلًا، حق الله على المستطيع، لأجل رؤية الكعبة، وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، لرؤية أرض النبوة والرسالة، لرؤية المسلمين من أنحاء العالم وتحقيق الأخوة الكاملة، لزيارة المسجد الحرام والطواف والسعي، تلبية لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لإعلان التوحيد العملي لله عز وجل، لاجتماع الأمة في صعيد واحد وإعلان عزة الإسلام.
واستغرق هذا العصف حوالي 5 دقائق ثم قام برسم تخطيط بياني للمناسك، ثم طلب من الجميع أن نردد معاً ثلاث مرات: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
تنمية بشرية مستدامة
وأردف د. الفقي: المسلم يمتاز عن كل خلق الله، بأن حياته كلها، بكل ما فيها من عادات وعبادات، وآلام وآمال، إنما هي مشروع تنموي مستدام في الدنيا والآخرة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
ولكن الحج بوجه خاص هو المشروع التنموي الأعظم، الذي ينتقل به المستثمر المسلم من مرحله التدريب والتجريب والتنفيذ إلى مرحلة الربحية الكاملة، وعلى كل المستويات وذلك للأسباب الآتية:
1- ضبط هذا المشروع ببرنامج شديد التنظيم، وإنجازه على الوجه الأكمل، بالتحامل على النفس، وبذل الوقت والجهد والمال، وعقد نية الإحسان الكامل لإنجاز هذا المشروع بكل سعادة ونجاح.
2- التسامي والتخلي عن ترف الوقت والفكر والجهد.
3- التخلص الكامل من الطاقة السلبية، المتراكمة في العقل والنفس والروح والجسد، بصدق التوبة، والإقبال على الله تعالى.
4- التواجد الصادق في محيط إيجابي عالمي سعيد وفاعل ومتنوع ومتجدد.
5- التوافق مع النظام الكوني، المسخر للتوافق مع حركة المسلم بالطواف والحبك والدقة والجمال، وفي ذلك ما فيه من قوة استمداد وتوافق وانسجام.
6- الصعود بالنفس إلى مرحلة الصدق الكامل، بداية من نية السفر، وحتى العودة إلى المقر.
7- اكتساب خبرات عالمية متنوعة، وحمل النفس على التوافق الاجتماعي، والتخلي عن عقد التميز والكبر والاستعلاء.
8- اشتراك جميع الأعمار والأجناس والأعراق والألوان في مهرجان رياضي عالمي تعبدي، مروح ومتنوع، ومستمر؛ ما بين سفر وطواف وسعي وتنقل، بين أجواء وبيئات ومواقيت مختلفة، حيث يمشي ويسعى ويطوف كل حاج ما متوسطه 10 كيلومترات تقريبًا؛ بما يحققه من نتائج مبهرة لتفريغ الطاقة السلبية، وتغييرها إلى روح وطاقة وعزم طاهر جديد.
9- وضوح الهدف التنموي بكل جلاء في هذا المعسكر (المفتوح/ المغلق) (الذاتي/ الرباني) الذي ليس له مثيل في الأرض عند أمة من الأمم، أو دين من الأديان.
10- تعدد أنواع الحج ما بين إفراد وتمتع وقران يفتح الباب واسعًا أمام الجميع، لاستيعاب جميع أنواع العزائم والهمم.
ثم أعاد التأكيد والتحذير من شبهة أي حرام يطول المسلم، من مال أو قول أو عمل.
ثم ذكر البيتين الذين ذكرتها على المنبر:
يا من حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجت العير
فما كل من زار بيت الله معتمر ولا كل من حج بيت الله مبرور
فطوبي ثم طوبي لمن تحققت له فرصة هذا الفوز المبين.
ثم طلب منا جميعًا أن نهتف بالتلبية مرة أخرى، وبعد إنعاشه النفس والقلب والروح بالصدح بالتلبية، والجهر بهذه الأنشودة الربانية الضارعة، بدأ د. الفقي يوضح الأهداف العليا من ربانية التربية الإلهية للخلق، في هذا النسك الأكبر، فبدأ بالآيات الكريمات: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج).
ثم أشار إلى رسم زجزاجي لحركة ومناسك الحج، مشيرًا إلى رمزيته، ما بين نية، واستعداد، وتجرد، ووصية، وسفر، وإحرام، وطواف بالكعبة، ومبيت بمنى، ووقوف بعرفة، ومبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، وتضحية وهدي، وحلق وتقصير، وطواف إفاضة، ورمي جمرات، وطواف وداع، ثم زيارة المدينة المنورة، وزيارة سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لمن لم يكن قد زار قبل الحج.
وقال: هذه هي المناسك شرعاً وهدياً.
وللحق، أنا لست فقيهاً لكي أبين لكم جواهر الشريعة، وأسرار الحكمة الإلهية، من هذا الركن الخامس العجيب جداً من أركان الإسلام.
ولكنني رجل مولع بربط الإيمان بحركة الإنسان والزمان والكون، وقراءة رسالة الإنسان في الحياة، كمشروع تنموي إنساني دقيق ونظيف وعالمي ومستدام.
ومثل هذه المشروعات يجب أن يكون التأهل لها عبر هدف رئيس عظيم، بجواره أهداف فرعية مساندة، برنامج نوعي شديد التنظيم، سقف زمني حاكم، همة دائمة، تجاوز لكل العقبات والعراقيل، التغلب على كل التحديات، توفر أعلي كفاءات التدريب والإعداد.
ثم ذكر بيتين من الشعر كنت ذكرتهما على المنبر، وفوجئت بأنه كتبها ورائي، كما كتب نقاطًا أخرى، كان يقرأ منها أثناء محاضرته، كما كتبت أنا وراءه موجزها، كما أرويه الآن.
وقال:
لبيك أنت الواجد الموجود والملك الأجل
وبكل شيء في الوجود على وجودك أستدل
وهكذا ساق الله إلينا هذه المحاضرة المنعشة، لعبقري التنمية البشرية والبرمجة الذهنية د. إبراهيم الفقي عليه الرحمة والرضا والرضوان.
ويبقى الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.