تجيب الهوية عن سؤال من هو؟ فهي تقدم إرشادات حول الصفات والقواسم والمبادئ والقيم التي تميز شخوصاً وجماعات عن غيرهم، بما يجعلهم قادرين على النظر إلى الآخرين والوقوف على حقيقة مكانتهم بين نظرائهم، ومن ثم يدفعهم الفهم المتعمق لأنفسهم نحو التعاطي بفاعلية وتعاون وتكامل مع غيرهم لتحقيق الغايات المرجوة.
ويؤدي تعثر الأفراد والجماعات والأمم عن فهم أنفسهم ومكامن تميزهم عن الآخرين إلى التماهي والذوبان في هويات مغايرة، هذا التماهي والذوبان الذي يتكئ على التقليد والنسخ والتماثل والتدجين فيصنع هويات مزيفة تحاول استنساخ صورة الآخرين التي لا تنتمي إلى ذات الناسخ أو المقلد فيخسر الإنسان نفسه ويفشل في التعويض عنها باصطناع ذات جديدة منسوخة.
من أبرز تجليات عولمة المناهج تراجع التعليم باللغة العربية وانهيار مكانته الاجتماعية
وتعبر الهوية عن القواسم المشتركة لأفراد المجتمع الواحد والأمة الواحدة، انطلاقاً مما يجمع هؤلاء الأفراد من تجارب متفردة تتبدى في ساحات اللغة والعادات والتاريخ والمصير المشترك والموقع الجغرافي المتقارب، ومن ثم فإن أركان الهوية تنعكس في الممارسات اليومية لأفراد المجتمع وتتجلى في أبسط الأفعال كالتحدث والكتابة والتواصل والشعائر الدينية والعادات الاجتماعية.
الهوية.. ونيران العولمة
ولما كانت الهوية سمة حضارية خاصة غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، فإن جوهر مبدأ العولمة يتعارض إلى حد بعيد مع الهوية، فبينما العولمة تتكئ على تذويب الفوارق وإزالة الحدود ونشر الثقافة الغربية باعتبارها جملة ما توصل إليه العالم المتحضر من منجزات ثقافية وسياسية واقتصادية، فإن الهوية تلتزم بالحدود الفاصلة التي تميز وتفصل فيما بين البشر وبعضهم بعضاً، لا بغرض الصراع، وإنما بهدف التكامل وتبادل الخبرات وإثراء التنوع الحضاري بين الأمم، واحتراماً لمبدأ الاختلاف الذي هو سُنة إلهية كونية لا يجب ولا يمكن الفكاك منها بادعاءات الواحدية الثقافية والحضارية المفروضة بالقوة من الغرب.
هذه الواحدية الهوياتية الغربية كانت قد أعلنت نهاية التاريخ بانتصار الحضارة الغربية، وأفصحت عن رغبة صريحة في فرض الثقافة الغربية المنتصرة على كافة بقاع العالم، ناظرة إلى التنوع والخصوصية كتهديد دائم يجب محوه والعمل على اندثاره، وكان مجال التعليم أرضاً خصبة لتلك السياسات الممنهجة والمدبرة باعتباره مصنع الهوية ومنبع التنشئة الاجتماعية والثقافية لدى كافة الأمم، فأصبح التعليم معولاً للهدم بعد أن كان من المفترض أن يصبح مشعلاً للتنوير وأداة للبناء والتثقيف والتوعية الحضارية، ومحضناً لتثبيت وترسيخ الهوية لدى الأجيال الناشئة.
.. و حذف وتسطيح كثير من الأحداث التاريخية المهمة التي تصنع وعي الأجيال الناشئة
تجليات محاربة الهوية في المناهج التعليمية
ولما كانت اللغة والتاريخ والثقافة والدين مكونات رئيسة في وصفة الهوية لأي مجتمع، فإن العمل الدؤوب على هدم تلك الأركان الهوياتية في المناهج التعليمية مضى قدماً باطراد نحو التزييف والتحريف، فكانت أبرز تجليات عولمة المناهج العربية ما يلي:
– تراجع التعليم باللغة العربية وانهيار مكانته الاجتماعية كتعليم درجة ثالثة لا يحظى بأي إقبال من جانب أولياء الأمور الذين يتهافتون على التعليم باللغات الأجنبية والمناهج الدولية.
– حذف وتعديل وتسطيح كثير من الوقائع والأحداث التاريخية المهمة التي تصنع وعي الأجيال العربية الناشئة، وفي مقدمتها دراسة عصور الخلافة الإسلامية، وحقائق الصراع العربي «الإسرائيلي»، وغيرهما من دروس التاريخ العربي والإسلامي الثري.
– التراجع عن دراسة مادة التربية الدينية كمادة أساسية والاقتصار على قدر ضئيل من الدروس الدينية الخاصة بالعبادات والشعائر وبعض السلوكيات الحميدة، مع تسطيح لفكرة الدين كمرجع ثقافي وحضاري شامل لكل شؤون الحياة وركن أساسي من أركان بناء النهضة.
– إخضاع العملية التعليمية إلى إشراف وتصرف جهات أجنبية ودولية تتدخل في شؤون التعليم وتفاصيل المناهج بما يخدم أجندات خارجية، ولا يحقق النتائج المرجوة من العملية التعليمية باعتبارها قضية أمن قومي تختص بتنشئة الأجيال الجديدة المعول عليها في بناء الأمة.
لصناعة هوية سليمة للأجيال الاهتمام بالتنشئة الأسرية وترسيخ الانتماء بالمناهج التعليمية
– استخدام مصطلحات غربية خالصة في دراسة الظواهر التاريخية العربية والإسلامية، كاستخدام مصطلح الاستعمار مكان الاحتلال، ومصطلح دولة «إسرائيل» بدلاً من الكيان المحتل، واستبدال مصطلح الإرهاب بالمقاومة، ومصطلح الشرق الأوسط بالعالم العربي.. وغيرها.
– ترسيخ بعض القيم التعليمية الخاطئة، مثل تفضيل العلوم الطبيعية على حساب العلوم الاجتماعية باعتبارها أكثر رُقياً، بينما العلوم الاجتماعية كالفلسفة والمنطق والتاريخ والأدب هي العلوم المعول عليها في صناعة الهوية وتثبيت إدراك النشء بذواتهم وتنمية عقليتهم الإبداعية الناقدة في مواجهة الغزو الحضاري والثقافي الغربي.
– تقديم مبدأ الحياد العلمي باعتباره قيمة علمية أساسية يتم بموجبها اتهام أي شخص منتمٍ لهويته الخاصة باعتباره «متحيزاً»، بينما الحياد العلمي وبخاصة في العلوم الاجتماعية التي تخضع للخلفيات الثقافية والحضارية لا يجب عليها الالتزام بالحياد الصارم كما في العلوم الطبيعية والرياضية.
منهجية تعليمية متحيزة
ولصناعة هوية سليمة للأجيال الناشئة، فإن التعويل على التنشئة الاجتماعية الأسرية أولاً، ثم ترسيخ الانتماء في المناهج التعليمية ثانياً، هما العاملان الحاسمان في صيانة عقول النشء من الغزو الفكري والاحتلال الثقافي والتدمير الفكري.
ويجدر لتحقق ذلك الترسيخ الهوياتي في العملية التعليمية توافر الإرادة السياسية لذلك، عبر تعزيز سياسات تعليمية مستقلة عن التوجيهات الدولية والتدخلات الخارجية، والعمل على تطوير شامل للعملية التعليمية برمتها لتقديم منتج علمي يعكس قيم وحاجات المجتمع والأفراد والأمة، ويلبي متطلبات سوق العمل وخطط الدولة الاقتصادية المستقبلية.
صناعة الهوية تتطلب العمل على إدخال العلوم والخبرات الأجنبية باللغة العربية
فإذا ما توافرت تلك الإرادة يستتبع ذلك الوقوف على مكامن الضعف في العملية التعليمية، ثم الالتفات إلى جوهر المناهج لا بالحذف الجزئي والتعديلات المتناثرة، وإنما بصياغة رؤية شاملة ومنهجية كلية تتجاوز التجزئة والتشرذم الذي يجرد التعليم من مضمونه باعتباره منظومة متكاملة من القيم والمبادئ وليس مجرد معلومات صماء ومواد لا يربط بينها رابط.
ومن ناحية ثانية، يجدر التركيز على المنهجية أكثر من التلقين ونقل المعلومات، عبر تنمية مجموعة من المبادئ الخاصة بالحث على الاطلاع والبحث وبذل الجهد والتفكير والنقد والإبداع، وتهيئة المناخ التعليمي الآمن والجاذب للطلاب والمشجع لتنمية المواهب وإعمال العقل.
وأخيراً، فإن تعليماً يصنع هوية أمة من غير الممكن أن يفعل ذلك بغير لسانها ودينها، فاللسان يعبر عن مكنون النفس البشرية، والدين يربط الحياة الأولى بالآخرة برباط الأخلاق، عبر الحض على الأعمال الصالحة وربطها بالمصير الأخروي كحياة واحدة متصلة يعيشها الإنسان، فيقدم الدين الوازع الأخلاقي بينما تنطلق اللغة لتحقيق التواصل الفعال بين أفراد المجتمع لأداء واجباتهم وتبادل خبراتهم ومنافعهم، وبذلك فإن صناعة الهوية تتطلب العمل على إدخال العلوم والخبرات الأجنبية باللغة العربية من أجل ترسيخ ارتباط الأجيال الجديدة بأمتهم.