تناولت مقالة سابقة تلبيسات مذهب الإنسانوية والخطر العقدي الكامن في سذاجة استناد المسلم إلى المرجعية الإنسانية، وفي ظل تكاتف كثير من الناس في نصرة قضايا المسلمين ومناهضة استضعافهم، على اختلاف العقائد والمشارب، يزداد اغترار المسلمين بجاذبية مصطلح «الوحدة الإنسانية»، ويصفونه جنبًا إلى جنب مع «الوحدة الإسلامية»، أو حتى يرون في الأولى البديل الكافي في ظل تخاذل كثير من المسلمين عن نصرة إخوانهم في الدين والإنسانية واللسان معًا!
والهدف من هذه المقالة لفت النظر إلى الميزان الشرعي الذي يفرق بين الناس على أساس الباعث العَقَدي الكامن وراء الأعمال والأقوال، لا مجرد ظاهرها، فقد يصلي اثنان نفس الصلاة ويفترق ميزان ثوابهما، أو يتعبد مسلم وكافر كل على شاكلة، ولا يقبل الله تعالى إلا ما كان على الشاكلة الشرعية المسلمة، وعلى كثرة الكلام الوعظي والفقهي في مسألة النيّة، يكاد ينحصر فهم المسلمين لنطاقها في دائرة الأعمال الصادرة من المسلم، والحق أن الغفلة عن سعة أبعاد مسألة النية -بمعنى الباعث العقدي للعمل- هي سبب اضطراب المسلمين في التعامل مع غير المسلمين عمومًا، وخصوصًا ذوي الأخلاق الحميدة والأعمال الحسنة ومناصرة حقوق المسلمين.
فلا تكون النصرة للحق؛ أي لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، إلا على أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبديهي أن مدخل ذلك هو الإسلام، ومن ثمّ على المسلم أن يفرّق بين تقدير موقف غير المسلم واعتباره نصرة بالمعنى الشرعي؛ ذلك أن تأييد غير المسلم لأي قضية سيكون بدافع قناعته بعدالتها أو حقانيتها وفق دينه وتصوره الوجودي (وهو الإنسانية غالبًا)، وليس من منطلق نصرة المسلمين من حيث هم مسلمون أو الإسلام ذاته من حيث هو الدين الحق أو إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
وأما النصرة الشرعية فهي ما كانت لتلك الغايات، وهذا مفاد حديث أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسق أو الفاجر، فهذا التأييد متعلق بمقام الربوبية والتدبير الإلهي، وأما ما يتعلق بجهة العبد فهو إخلاص باعث النصرة لله تعالى، وإدراك الفرقان العقدي بينه وبين غير المسلم وإن اتفقوا في تأييد نفس المسألة، والنص الكامل لذلك الحديث يثبت هذا الفرقان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا (غزوة) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ»، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي قُلْتَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى النَّارِ»! قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ! فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ! فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ! أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»! ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ(1).
وبسبب ضعف فقه كثير من المسلمين لهذه الحدود وخطر الفرقان بين الكفر والإيمان، يكون موقف غير المسلمين المناصرين للمسلمين وقضاياهم أخطر من الموقف من المعادين صراحة، إذ يلتبس على المسلم الحد الذي تنتهي عنده المعاملة أو الود المشروع، ويبدأ ما فوق ذلك ما لا يرضاه الله تعالى من عبده المؤمن.
خذ مثلًا مسألة الشهادة والاستشهاد، فقد كثر من المسلمين إطلاق لفظة الشهيد على كل من يُتوَفّى مناصرًا لقضية أو حق يَعنِيان المسلمين، وإن كان غير مسلم، وإنما الشهيد في التصور الشرعي هو الذي قُتل في سبيل الله تعالى شاهدًا أي مُظهِرًا للحق على الباطل، ويليه الأنواع السبعة المذكورة في الحديث المشهور كالغريق والمبطون (أي من مات بداء في بطنه)، خلاف هذا يمكن أن يسمّى غير المسلم شهيدًا من حيث المعنى اللغوي للفظة فحسب، أي كونه شاهدًا على حقانية ما قُتِل في سبيله.
لكن المشكلة أن المسلمين حين يطلقون اللفظة أنهم لا يستحضرون، بل وقد لا يدركون ابتداء، الفرقان العقدي بين باعث الموت في سبيل الله تعالى وحده، والموت في سبيل قضية أو غيرها مما اقتنع المقتول أنه مستحق أن يفديه بنفسه، فالثاني إذا صدر من كافر فهو استدامة لكفره ليس إلا، وإذا صدر من مسلم فينطوي على شرك بالله تعالى، وأما الموت دفاعًا عن العِرض والمال والأهل، فقد أدخلهم عليه الصلاة والسلام في سبيل الله تعالى بقوله: «منْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دُونَ دَمِهِ أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(2).
ومثلًا آخر، تجد غير المسلمين قد بدؤوا حملة مقاطعة على وسائل التواصل للمشاهير والمؤثرين الساكتين كالشيطان الأخرس عن مجرد الإدانة بالكلام للمجازر التي تُرتكب بحق المسلمين المُستضعفين، فيُهَلّل المسلمون لهذه البادرة المباركة، ويتلقفونها، ويقلّدونها، وهذه استجابة محمودة لبادرة محقة، لكن المؤسف غفلة المسلمين عنها حتى بادرهم بها غيرهم من أهل الكفر بالله تعالى، فكانوا مرة أخرى تَبَعًا للكفّار في اتباع الحق بدل أن يكونوا هم الدالين عليه ابتداء!
أضف إلى ذلك أن الحق الذي كان يقتضيه الإسلام من المسلم من البداية، ألا يكون المسلم متابعًا للمحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذين جمعوا الكفر مع المجاهرة بالفسوق والعصيان، أو حتى الذين أظهروا الإسلام وجاهروا على ذلك بالفسوق والعصيان، وأن يهجرهم غضبةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا أن يكون من المتابعين أو التابعين لهم (وبين اللفظتين صلة وثيقة)!
والأدهى أن يكون ممن يملأ جيوبهم من مال الله تعالى الذي جعله في يده أمانة، والذي تراكم في مخزون أولئك على مدى عقود من انتشار ثقافة الاستهلاكية (Consumerism)، والافتتان الجماهيري «الآيدول» (Idol) حولّت تلك الأصناف إلى أيقونات تجارية (Brand Face) ذات ثروات وتأثير، استغلت نفوذه في كثير من الأحيان لتمويل العدو وتدشينه في محاربة الإسلام وتقتيل المسلمين، أو الإعانة على ذلك بالتجاهل والسكوت ممن يقدرون على الدفع عنهم ولو باسم مروءة الإنسانية إن لم يكن باسم أخوة الدين! فمن المجرم الأكبر على الحقيقة؟! ومن الذي كان البادئ بالخذلان لله تعالى ثم المتطاول بعد ذلك بمطالبة الله تعالى بالنصرة؟!
ثم لا بد أن يتيقظ المسلم كذلك لفارق المنطلق العقدي بينه وبين غيره وإن ناصروا نفس القضية أو اشتركوا في مظاهر المناصرة، وإن النصرة المطلوبة في ميزان الله تعالى من المسلم خصّصيًا بوصفه مسلمًا (وكل عمل عامة صادر من مسلم) تلك التي يكون ظاهرها وباطنها على أمر الله تعالى، فعليه في هذا السياق، مثلًا، ألا يعتقد تأثير أولئك المؤثرين، ولا تأثير أي إنسان أو مخلوق، في موازين المجريات والأقدار إلا بإذن الله تعالى، ثم يقاطعهم حين يقاطعهم من باب الأخذ بأسباب نصرة إخوانه والإضرار بالعدو بكل الأشكال المعاصرة الممكنة.
إذا سألتني فماذا عن المسلمين الذين لا يحركهم إسلامهم ولا إنسانيتهم في وجه الظلم والطغيان ولو بالإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان، في مقابل انتفاضة غير المسلمين بالقول والفعل؟ قلت لك: إن الجواب في قوله تعالى: (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14)، فكما أن غير المسلم المتبلّد تجاه المُجريات حوله مصاب في فطرته الإنسانية، فالمسلم البليد مُصاب في إيمانه وإنسانيته معًا، والله تعالى المسؤول أن يشفيه ويهديه.
______________________
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (3062).
(2) سنن أبي داود: كتاب السُّنة، باب في قتال اللصوص (4772).