إن القيم والفضائل منها ما هو جِبلِّي في الإنسان مفطور عليه، ومنها ما هو مكتسب يمكن تحصيله.
وقد يكون الخُلق الواحد في أحد الأشخاص جِبليًّا، وفي آخر مكتسبًا، ودليل ذلك أن الرسول ﷺ قال لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خلتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أتَخَلَّق بهمَا، أَمْ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ ﷺ: «بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا»، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خلتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ(1).
وفي حديث آخر يؤكد أن الإنسان قد يكون خلوًّا من الحلم، لكنه يكون قادرًا على اكتسابه، فقال: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»(2).
وتلك القيم والفضائل المكتسبة تحتاج إلى غرس ورعاية وعناية ومتابعة لتؤتي أكلها.
والأم المربية الحقة هي التي تُشبع عناصر ولدها كلها؛ فتُشبع البطن بالطعام الحلال، والنفس بالتربية السليمة والتأديب والتهذيب، والروح بالإيمان، والعقل بالعلم.
وإذا كان هناك هذا التوازن خرج الأولاد صالحين في أنفسهم، مصلحين لغيرهم، قادرين على ترك بصمتهم في المجتمع.
وقد كان حظ الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، في والديه أعظم حظٍّ وأوفره؛ إذ كان أبوه محفزًا له على طلب العلم وإشغاله به، ولومه إن وقع منه تقصير ولهو ولعب؛ قال مالك: كان لي أخ في سن ابن شهاب، فألقى أبي يومًا علينا مسألة فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: ألهتك الحمام عن طلب العلم، فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين -وفي رواية: ثماني سنين- لم أخلط بغيره(3).
أما أمه العالية بنت شريك بن عبدالرحمن بن شريك الأزدية، وقيل: إنها طليحة مولاة عبدالله بن معمر(4) فلم تكن على خلاف مع زوجها في تربية أولادها، بل كانت على علم ودراية بمن يأخذ ولدها العلم عنه.
فقد قال الإمام مالك: قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابًا مشمرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن.
وقال، رحمه الله: كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه(5).
فتلك عناية فائقة بالولد؛ إذ أخرجته في طلب العلم في أجمل هيئة وأحسنها، ولم تنس أن توجهه أن يجمع مع العلم الأدب؛ فالعالم الرباني هو الذي جمع العلم والأدب والعمل، ولم يكن العلم عنده للمباهاة وطلب البروز والمجادلة في المجالس.
وكانت في ذلك متتبعة لما رواه كَعْبُ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ»(6).
والأدب -كما قيل- هو وقود العلم، وانفصال أحدهما عن الآخر يعتبر نقصًا في حق صاحبه؛ لذا قال أبو زكريا العنبري: «علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم، وإنما شبهت العلم بالنار لما روينا عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما وجدت للعلم شبهًا إلا النار؛ نقتبس منها ولا ننتقص عنها»(7).
وقد صاغ هذا المعنى الشاعر حافظ إبراهيم حينما قال:
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه ما لم يتوَّج ربُّه بخلاقِ
والعلمُ إِن لم تكتنفهُ شمائلٌ تُعْليهِ كان مطيةَ الإِخفاقِ
كم عالم مدَّ العلومَ حبائلاً لوقيعةٍ وقطيعةِ وفراقِ
وفقيه قومٍ ظل يرصدُ فقههُ لمكيدةٍ أو مُسْتَحِلِّ طلاقِ
وطبيب قومٍ قد أحلَّ لطبهِ ما لا تحلُّ شريعةُ الخلاقِ
وأديب قومٍ تستحقُّ يمينهُ قطعَ الأناملِ أو لظى الإِحراقِ
وقد كان ربيعة الرأي مفتي المدينة، وعالم الوقت، وكان زاهدًا كريمًا سخيًّا عابدًا، يعرف تبعة الكلمة، وكان يرى أن العلم وسيلة إلى كل فضيلة(8).
لذا رأت أم الإمام أن يقتدي بشيخه ربيعة في هديه وسمته ودله وطباعه وأخلاقه مع ما يتعلمه من فقهه وسائر علومه.
وتلك الرعاية من الوالدين للإمام مالك دفعته لطلب العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، وإلى أن مات(9).
ولم ينس الإمام مالك قيمة شيخه بعد وفاته، ولم تدعه شهرته لأن يتنقص من شيخه أو يغمطه حقه، بل قال عنه بعد وفاته: «ذهبت حلاوة الفقه منذ مات»(10).
وقد وصف الواقدي مجلس الإمام مالك فقال: «وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان مهيبًا، نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم، فقرأ عليه»(11).
وبذلك فإن الإمام مالكًا هو غرْس أبيه وأمه، وكان توجيههما له للعلم والأدب المفتاح الذي ولج به إلى أرحب الآفاق، آفاق العلم والأدب والقيم.
_____________________
(1) أخرجه أبو داود في «الأدب»، باب: «في قُبْلة الرِّجل»، ح(5225)، وقد حسَّنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود».
(2) أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»، ح(2663)، وقد ذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 605).
(3) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (1/ 131).
(4) الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (1/ 84).
(5) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض، (1/ 130).
(6) أخرجه الترمذي في «العلم»، باب: «مَا جَاءَ فِيمَنْ يَطْلُبُ بِعِلْمِهِ الدُّنْيَا»، ح(2654)، وقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وقد حسَّنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
(7) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للبغدادي (1/ 80).
(8) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، (6/ 89) وما بعدها.
(9) المرجع السابق (8/ 55).
(10) المرجع السابق (6/ 93).
(11) المرجع السابق (8/ 79).