أهداف خبيثة
لقد شهد العالم العربي موجة من التطبيع مع الكيان الصهيوني في جريمة كبيرة بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، من خلال مصادمة الرأي العام العربي والإسلامي وإصباغ الشرعية على وجوده واحتلاله لأرض فلسطين، لا بل سارعت حكومات إلى تمجيد إيجابيات هذا العمل وستر عورته عبر ادعاءات هزيلة لا يمكن لها أن تصمد أمام الحق الفلسطيني الساطع.
إن هذا التطبيع الخبيث لا يخدم سوى مصالح الكيان في جميع الجوانب، وعلى رأسها الجانب الأمني الذي يوفر لهم التنسيق الأمني على حساب الشعوب والمناضلين من خيرة أبناء الوطن، والجانب الاقتصادي الذي يجعل من دولة الكيان قبلة للشعوب المطبعة طمعاً في تكنولوجيتها الاستخبارية، والجانب السياسي الذي يحقق تأمين حدودها ونظامها على حساب حرية شعوب الأمة العربية وقضاياها المركزية، كما أنه يضر كثيراً بالقضية الفلسطينية ونضالات أبنائها ويساهم بضربها في عمقها الإستراتيجي وعزلها عن محيطها العربي والإسلامي، ويقف سداً منيعاً في وجه نضالها وتحررها، من خلال صناعة مناخ مغشوش يسمح باستقرارها واستمرارها.
مخطط استعماري
إن التدقيق فيما يجري في المنطقة العربية من تسريع لوتيرة التطبيع، والانخراط الأمريكي فيه بكل قوة، إنما يهدف لتصفية القضية الفلسطينية، وما «صفقة القرن» التي يروج لها الأمريكيون إلا أكبر دليل على ذلك، فضلاً عن دفع تكاليف تصفية القضية الفلسطينية من جيوب المطبعين، إذ لا حل للصراع العربي الصهيوني إلا من خلال التطبيع مقابل السلام؛ وهو ما يعني تطبيع عربي واسع النطاق، مع تحسينات اقتصادية وبعض الدعم اللوجستي للسلطة الفلسطينية، مقابل سلام اقتصادي وتنتهي القضية وفق مخططهم بدون القدس، وبدون سيادة، وبلا عودة للاجئين، وهي مؤامرة كبرى تستهدف القضية الفلسطينية، يشارك فيها بعض العرب، عبر التطبيع الشامل بقصد أو بدون قصد.
لقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدور الراعي للتطبيع الصهيوني العربي، في الوقت الذي اتخذت فيه جملة من الخطوات ضد القضية الفلسطينية، حينما أقدمت الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس دونالد ترامب على تنفيذ العديد من القرارات التي تدعم دولة الكيان على حساب القضية الفلسطينية، أهمها:
إعلان مدينة القدس عاصمة لدولة الكيان، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، ووقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، ثم قطع كامل المساعدات عن «الأونروا»، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، والاعتراف بسيادة دولة الكيان على مرتفعات الجولان السوري المحتل، وشرعنة المستوطنات القائمة على أراضي الضفة الغربية، وما تلاه من إعلان موافقة الإدارة الأمريكية على ضم وفرض سيادة دولة الكيان على الأغوار والبحر الميت وتوسيع المستوطنات في الضفة، لضم 33% من الضفة الغربية مما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء حق العودة وحلم إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967م.
وكل ذلك جاء في ظل إعلان رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو شعاره الهزيل الكاذب «السلام مقابل السلام»، وتهافت العديد من الدول العربية للتطبيع مع دولته في ظل استهداف القضية الفلسطينية بدون حل جذري لها، والتنصل من مبادرة السلام العربية المشهورة؛ مما ينهي القضية الفلسطينية كقضية العرب المركزية لتصبح قضية الفلسطينيين المحاصرين وحدهم.
تكريس للاحتلال
رسخت اتفاقيات التطبيع التي سميت بـ«اتفاقيات أبراهام» التي وقعت في 15 سبتمبر 2022م واقعاً احتلالياً جديداً في المنطقة العربية، حيث فُتحت ممثليات دبلوماسية صهيونية في كل من الدول الموقعة لها، ورُبطت خطوط جوية مباشرة بين «تل أبيب» والدول المطبعة، وعُقدت خلالها اتفاقيات تعاون في مجالات مختلفة، وارتفع الطلب على تعلم اللغة العبرية، وفُتح المجال أمام الدراسة الجامعية في المؤسسات الأكاديمية ومعاهد الأبحاث وتلقي الدورات في دولة الكيان.
وعقد الموقعون سلسلة من الصفقات التجارية والاقتصادية وترتيبات التعاون الأمني، والتبادل الثقافي وتبادل الزيارات السياحية، وأدت إلى ظهور هذه العلاقات إلى العلن، وحولت مسار الصراع العربي الصهيوني وساهمت في توسيع الاستيطان وضم الأراضي وزيادة تكريس الاحتلال بدلاً من حل المسألة الفلسطينية.
عوامل مساعدة
لقد سعت أنظمة الحكم الاستبدادية في الوطن العربي طوال الفترة الماضية إلى إلغاء مفهوم الديمقراطية، وهو هدف عززته الدول الغربية، لعلمها بأمرين مهمين؛ أولهما: أن الشعوب الحرة لا تقبل بالاستعمار والاستعباد والتبعية، بل تتخذ قرارها حسب ما تقتضيه مصالحها الوطنية، وثانيها: أن الحرية تصنع الرجال الأحرار الذين يملكون قيم الشجاعة والشهامة ويقاتلون من أجل الحق ويدافعون عن بعضهم ويكافحون من أجل تحرير الأوطان، وهو أمر لا ينسجم مع أهداف تلك الدول، وللقضاء على هذه السياسات والتوجهات لدى الشعوب المؤمنة بعروبتها كان لا بد من جر الأنظمة الحاكمة إلى مستنقع التطبيع وربط مصيرها بالدعم الغربي والأمريكي لتكون راعية لمصالحها في المنطقة عبر مستعمرتها الصهيونية التي تضرب بها كل من يخرج عن إرادتها.
علاقة تكاملية
إن التحرر الفلسطيني والنضال بكل أشكاله يتطلب أولاً وقبل كل شيء الانعتاق والتحرر من مثل هذه الأنظمة التي تعيق مسيرة الانطلاق نحو الحرية والاستقلال، وإلغاء كل اتفاقيات التطبيع ومظاهرها، والتوحد خلف برنامج عربي موحّد يحمل القضية الفلسطينية، ويقاتل على أساس أنها قضيته المركزية، والتمترس خلف الوحدة العربية في وجه المؤامرات التي تهدف إلى تفريق وتشتيت العرب ضمن سياسة «فرق تسد»، وفرض الأجندة العربية كقوة يمكن أن تجابه الغرب وسياساته العنصرية، لانتزاع الحق العربي بدلاً من التسليم للغرب والتنازل على حساب الحق العربي الفلسطيني، إذ العلاقة ما بين التحرر العربي والتحرير الفلسطيني ترابطية الصلة والنتائج.
فتحرير فلسطين يعني فشل المشروع الصهيوني وأدواته في المنطقة، وتحرر الدول العربية من التبعية الغربية والأمريكية، والأمر مرهون بأبطال هذه المعادلة وهم الشعوب، الذين يقع على عاتقهم الوعي بالحالة الاستعمارية الغربية لأنظمة الحكم في بلادهم، واليقظة من الانزلاق إلى خطر المفاهيم التي تعزز فكرة الاندماج الصهيوني في المنطقة والتعايش معها كالتطبيع بدلاً من مجابهته والوقوف في وجهه.