إن التنوع والاختلاف آيتان من آيات الله تعالى؛ فهما دليلان على طلاقة القدرة، وبداعة الصَّنعة؛ يقول جل جلاله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).
فهذا التنوع والاختلاف اللامحدودان في البشر -رغم أن أصل الخلقة من ذكر وأنثى- ليس مقصودًا منهما التنافر والتناحر، بل هما دعوة للتعارف والتقارب والتعايش؛ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
وإن الأعراق المختلفة إذا وصلت لأعلى شكل من أشكال التعاون فيما بينها، وتجاوزت المصالح الضيقة إلى الأهداف السامية العليا التي تخدم الجميع، ولا يظلم طرف طرفًا، ولا يستعلي طرف على آخر، فإنها يطلق عليها «أمة»، وتلك الأمة بهذا الشكل يمكنها أن تقيم الدولة القوية التي تترك بصمتها في التاريخ والجغرافيا.
وقد ظهرت بوادر الأمة في المجتمع المسلم المكي الأول؛ إذ اجتمع القرشي العربي الشريف مع العبد الحبشي والرومي، وكان عمر بن الخطاب يرى فضل بلال بن رباح عليه وسابقته، واضعًا نسبه وشرفه وتعصبه لها تحت قدمه؛ فكَانَ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا؛ يَعْنِي: بِلاَلاً(1).
وبعد الهجرة ازدادت العناصر تنوعًا؛ فانضاف إلى القرشي الأنصاري، وإلى الحبشي والرومي الفارسي، وإلى المسلم اليهودي.
وفي دولة المدينة بُعيد الهجرة مباشرة عمل النبي ﷺ على توحيد الجميع، وتجلى ذلك في الصحيفة وهي دستور المدينة، والتي جاء في ديباجتها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ ﷺ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ»(2).
وقد جابه الرسول ﷺ مجابهة شديدة أي دعوة لشق صف الأمة، أو العمل على التفرقة بين عناصرها، وقد رد أي دعوة لزعزعة استقرار الأمة الواحدة وإشعال نار العصبية بينهم إلى أعمال الجاهلية وأفكارها، ووصفها بوصف بشع بأنها منتنة؛ فعن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»(3).
ومن آخر وصاياه لأمته، وفي أعظم اجتماع تم في أواخر حياة النبي ﷺ في حجة الوداع نادى في الناس قائلاً: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى.. أَبَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ(4).
ولما استقامت الأمة على هذا النهج فتحت العالم، وانضوى تحت لوائها شعوب وقبائل وأعراق متعددة، كلهم صنعوا أمة الإسلام الواحدة؛ فعاش العربي بجوار الفارسي والرومي والتركي والكردي والبربري والتكروري والهندي والصيني.. إلخ.
ويوم أن دبت العصبية بين المسلمين سفك بعضهم دماء بعض؛ ففي سنة ثلاث وعشرين ومائة كانت وقعة عظيمة بين البربر وكلثوم بن عياض(5)، فقتل كلثوم في المصاف واستبيح عسكره، كسرهم أبو يوسف الأزدي رأس الصّفريّة(6)(7).
ولم تقف الفتن بين العرب وغيرهم من الأعراق، بل وقعت بين العرب أنفسهم؛ مثل ما قعت بين القيسية واليمانية، ففي سنة 130هـ أقبل أهل اليمن بأسرهم يريدون أن يولوا رجلاً منهم، فبيتهم الصُّميل فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فهي وقعة شَقُنْدة المشهورة، وفيها قُتل أبو الخطَّار، واقتتلوا بالرماح حتى تقطعت، وبالسيوف حتى تكسرت، ثم تجاذبوا بالشعور(8).
وبذلك تضعف دولة المسلمين، ويتسلط عليهم عدو من خارجهم، ويتحكم فيهم.
فالاستعمار دائمًا ما يعمل بقاعدة «فرِّق تسد»، ويحاول دائمًا أن يفرق الأمة الواحدة، ويغيّر خطته حسب التركيبة السكانية للدولة؛ ففي العراق وبعد إسقاط صدام حسين قسَّم العراقيين إلى عرب وأكراد، والعرب إلى سُنة وشيعة، وأشعل بينهم نيران الفتن.
وفي لبنان يلعب على العامل الطائفي؛ فهذا سُني وذلك درزي والآخر ماروني وذلك شيعي.
وفي مصر يلعبون على الدين؛ فهذا مسلم وذلك مسيحي.
وفي المغرب العربي يلعبون على العامل العرقي؛ فهذا بربري أمازيغي وذلك عربي.
ويصنعون صنائع لهم ينفخون النيران في العصبيات العرقية والدينية والطائفية، وخصوصًا في الأقليات التي يتم إظهارها بأنها مظلومة مهضومة الحقوق.
وفي المقابل، نرى أن تعدد الأعراق بأمريكا -مثلاً- عامل من عوامل قوتها؛ إذ ينصهر الجميع في بوتقة الأمة الأمريكية، فلا بأس أن تتكلم لغتك في بيتك، لكن الشارع والمؤسسات فلها لغتها، وهي اللغة الإنجليزية؛ فهي لغة العلم والتعليم والتواصل.
وتتراجع المصالح الشخصية الضيقة للأعراق ويتم تعظيم المصالح العليا للأمة الأمريكية.
فما يُعتبر عامل قوة لهم يجعلونه عامل ضعف عندنا، لذلك فإن الأعراق والطوائف سلاح ذو حدين، إما أن يكون موجهًا لأعداء الخارج، وعامل تنافس إيجابي داخلي ليبرز كل عِرق أفضل ما عنده لنهضة الأمة وعلو شأنها، وإما أن يكون عامل هدم وسلاح يُوجَّه للداخل فيمزق الأمة ويهدم الدولة، ويفتح الباب على مصراعيه للأعداء للتحكم في هذه الدول الضعيفة.
_________________________
(1) أخرجه البخاري في «فضائل الصحابة»، باب: «مَنَاقِبُ بِلاَلِ بْنِ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ»، ح(3754).
(2) سيرة ابن هشام، (1/ 501).
(3) أخرجه البخاري في «التفسير»، باب: «قَوْلِهِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)»، ح(4905).
(4) جزء من حديث أخرجه أحمد في «المسند»، ح(23489)، وصحَّح إسناده شعيب الأرنؤوط.
(5) هو والي هشام بن عبدالملك على إفريقية.
(6) فرقة من فرق الخوارج.
(7) النجوم الزاهرة، (1/ 289).
(8) الكامل في التاريخ، (5/ 76).