لإسلام ثورة عارمة لتحرير الإنسان من كل ألوان الذل والهوان والعبودية بمختلف أشكالها، وألوانها، وقد أرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب ليحرر الإنسانية كلها –وليس المسلمين وحدهم- من كل خنوع وخضوع لغير الحق والعدل، ويحقق للبشرية كلها الحرية التي طالما كانت حلماً يراودها، وأملاً يداعبها عبر القرون.
وهذا عكس ما توهمت الكتل الضخمة من البشر، والغالبية العظمى من الجماهير، أن الإسلام دين يحارب الحريات، ويكبت الشهوات، ويفرض العقوبات، ويضيق على الناس دنياهم، ويعكر عليهم معاشهم، لكن الواقع والحقيقة أن الإسلام مهد الحريات في التاريخ، ومنبت الحرية لكل الإنسانية.
ويزعم الكثير في الشرق والغرب من الخواص والعوام، أن الثورة الفرنسية عام 1789م هي مهد الحريات في العالم أجمع، ومن فرنسا بزغ فجر الحرية لكل الإنسانية.
ولكن الحقيقة الثابتة، والواقع الذى لا يقبل التزوير، هو أن الإسلام منبع الحريات في الدنيا كلها، ومن دين الإسلام تعلم الإنسان الحرية في أبهى صورها، وأجمل ألوانها، وأتم أنواعها، ويجدر بنا التأكيد مرة ثانية أن الحرية فريضة إسلامية لكل الإنسانية، وليس للمسلمين وحدهم، وسنتعرض في دراستنا هذه لأهم أنواع الحرية في الإسلام:
1- الحرية الدينية:
فرض الإسلام الحرية الكاملة لكل إنسان في اختيار عقيدته ودينه الذي يدين به، ولم ولن يقبل الإسلام أن يفرض على إنسان ديناً كرهاً أو جبراً، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، وقال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وقال عز وجل: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99).
والنصوص التي تثبت حرية العقيدة كثيرة، وقد تتابعت في القرآن والسُّنة لتثبت أن الحرية فريضة إسلامية لكل الإنسانية، وذلك قبل أن تعرف الحضارة الإنسانية معنى الحرية بأكثر من ألف عام، ومن الأصول الثابتة في الإسلام أن الإيمان الصحيح ما كان عن يقين واقتناع لا عن تقليد واتباع، وما أورد الإنسان الموارد، ولا أنزله المهالك إلا اتباع الآباء، ومسايرة الأجداد، ومحاكاة الأقوام، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (لقمان: 21).
يقول الإمام محمد عبده: «إن التقليد بغير عقل هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمناً إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربي على التسليم بغير عقل، وعلى العمل ولو صالحاً بغير فقه فهو غير مؤمن، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد أن يرتقي عقله، وترتقي نفسه بالعلم فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يعلم سوء عاقبته، ودرجة مضرته».
فالإسلام لا يرضى التقليد والاتباع في الدين، فهل يرضى الإكراه على اعتناق دين؟ فكيف تسول نفس لإنسان أن يقول: إن الإسلام انتشر بحد السيف؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، فلقد جاء الإسلام بحرية الأديان، وحرم على الإنسان أن يكره أحداً على اعتناق ديناً من الأديان حتى ولو كان هو دين الإسلام.
2- الحرية السياسية:
في 12 ربيع الأول 11هـ/ 7 يونيو 632م تولى أبو بكر الصديق خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وهذا ليقوم الإسلام والمسلمون بالأخذ بيد الحضارة الإنسانية لترتقي منزلة كبرى نحو تحقيق الحكم الرشيد، المؤسس على الحرية، والعدل والشورى والمسؤولية.
والمقصود بالحرية السياسية في السياسة الشرعية، كما هو الشأن في الفكر السياسي المعاصر: أن يشارك كل فرد في الدولة في إدارة شؤون الحكم في البلاد بالمشاركة في الانتخابات الحرة النزيهة، وذلك باختيار مجالس نيابية حرة تقوم باختيار الحكومة ومراقبة أعمالها، وسن التشريعات العادلة، ومراقبة الحكومة ومحاسبتها، بل وعزلها إن اقتضى الأمر لك.
والمسلمون قد ارتقوا شأواً بعيداً في الحرية السياسية، وكانوا مركز إشعاع حضاري للإنسانية كلها في هذا المجال قبل أن تعرف أمريكا وأوروبا شيئاً عن الحكم الرشيد.
وتمثلت الحرية السياسية في الدولة الإسلامية بكامل أركانها، فتم اختيار الخلفاء الأربعة بإرادة الأمة، وكانت الأمة تراقب الخليفة وتحاسبه، بل إن الخليفة نفسه كان حريصاً على أن تقوم الأمة بواجبها تجاه الخليفة أو رئيس الدولة، فقد خطب أبو بكر الأمة فور توليه الخلافة: «أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن ضعفت فقوموني، وإن أحسنت فأعينوني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم القوي عندي حتى أزيح عليه حقه، إن شاء الله، والقوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم».
وهذه الكلمات من الخليفة لأمته يعلمهم فيها حقوقهم السياسية، حقق بها الخليفة الصديق سبقاً حضارياً إنسانياً، حين تجد رئيس الدولة حريصاً أشد الحرص على أن تقوم رعيته بمراقبته ومحاسبته.
وعلى درب الرسول صلى الله عليه وسلم والخليفة الأول سار الفاروق عمر بن الخطاب ومضى يعلم أمته ورعيته حقوقها وحرياتها، يقول عمر: ألا إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني، فقام إليه رجل فقال: إن رأينا فيك اعوجاجاً قومناك بسيوفنا، ففرح عمر بكلام الرجل، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمة عمر من يقوّم عمر بحد السيف.
وهذه الحريات الدينية والسياسية التي فرضها الإسلام للمسلمين وللناس كافة لا يفرض عليهم ديناً، ولا يكره الناس على عقيدة حتى ولو كانت هي دين الإسلام، ولا يفرض عليهم رئيساً بغير إرادتهم حتى ولو كان هو أبو بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان هو الفاروق عمر بن الخطاب الذي نزل الوحي من السماء موافقاً رأيه في أكثر من قضية.
هذه الحريات وغيرها واحدة من سبل صناعة الإسلام للسلام العالمي، والأروع من ذلك كله أن الإسلام لا يحجب مزاياه عن غيره من المسلمين كما تفعل الحضارة الغربية المعاصرة حين تحكم بلادها بالحرية، وتصدر الدكتاتورية للعالمين، بل وتساهم في صنع الاستبداد والانقلابات!