مشهد لا يتكرر إلا في الحج، حيث يجتمع الملايين من البشر في مكان واحد، يهتفون بمضمون واحد وهو التلبية، ويؤدون عملاً واحداً وهو مناسك الحج، ويلبسون زيّاً واحداً وهو الإحرام، ويقفون على جبل واحد وهو عرفة، ويطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ويرمون الجمرات.
لا يمكن لواحد منهم أن يترك عملاً من هذه الأعمال بدعوى أنه غني وهذه الأعمال للفقراء، أو يتركها لأنه فقير وهذه الأعمال للأغنياء، أو أنها للبيض دون السود أو العكس.
والحقيقة أن بعض هذه المظاهر قد صنعها العرب في الجاهلية قبل الإسلام، إلا أن الله عز وجل عندما فرض الحج في الإسلام أحاطه بتشريعات تلغي كل الفوارق بين الأجناس والطبقات، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: المساواة في الإحرام:
كانت قريش تعطي ثياب الإحرام لمن أرادت، فمن أخذ الثياب طاف بها حول الكعبة، ومن لم يأخذ فإنه يطوف بالبيت عرياناً، فأصبح هناك تمايز بين الناس، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بالبيت عُرْيَانًا.
فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم نفى كل مظاهر الجاهلية في أداء المناسك، ونهى عن الطواف بالبيت بدون الثياب، ففي صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مؤذن في الناس يقول: «لَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ»، فلا مجال للتمايز أو التفاخر بشيء من مناسك الحج، بل الجميع سواسية في كل شيء، ثم عمم النبي صلى الله عليه وسلم ملابس الإحرام على الجميع، فالمرأة تحج في ملابسها، والرجل يتجرد من المخيط، ويلبس الإزار والرداء فقط، حتى لا يبقى هناك مجال للتفاخر بين الناس.
ثانياً: المساواة في التلبية:
جعلت بعض القبائل العربية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسها تلبية خاصة تتميز بها عن سائر الناس، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل ذلك، فقد روى مسلم عن عبدالله بن عباس قال: كانَ المُشْرِكُونَ يقولونَ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ، إلَّا شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وَما مَلَكَ، يقولونَ هذا وَهُمْ يَطُوفُونَ بالبَيْتِ! قالَ ابن عباس: فيَقولُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «وَيْلَكُمْ! قدْ قَدْ»؛ أي: لَكمُ الوَيلُ والهَلاكُ بما تَزيدونَ في التَّلبيةِ، وقوله: «قدْ قدْ»؛ أي: اكتَفوا بقَولِكُم بالتَّوْحيدِ واقْتَصِروا عليهِ، وَلا تَزيدُوا ما بَعدَها.
وكانت هناك قبيلة يمنية اسمها «عك»، يقصد أهلها الكعبة كل عام للحج، وكانوا يرسلون أمامهم عبدين أسودين يطوفان حول الكعبة وينشدان: نحن غرابا عك.. (يعني: نحن عبدا قبيلة عك)، وكانوا يطلقون قديماً على العبد شديد السواد غراباً، فيرد أهل القبيلة على العبدين أثناء طوافهم: «عك إليك عانية»؛ أي أن قبيلة عك جاءت إليك خاضعة، وعانية أي خاضعة مستسلمة، ويقولون: عبادك اليمانية: أي عبادك الذين جاؤوا من اليمن، كيما تحج الثانية: أي أننا جئنا لنحج مرة أخرى.
فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ألغى هذا وأصبحت التلبية واحدة لكل الناس: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
ثالثاً: المساواة في أماكن المناسك:
سوّى الإسلام بين الناس في أماكن المناسك، بحيث لا يقف بعضهم في أماكن معينة دون الآخرين؛ زاعماً أنه يتميز بهذا المكان عن غيره، فالمسلمون مُتساوون في النزول والوقوف على البِقاع المقدَّسة من أماكن النُّسك من منى وعرفة ومزدلفة، قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (الحج: 25)، وقد شرع الإسلام ذلك لأن بعض القبائل كانت تزعم لنفسها التميز عن الناس وتترفع عليهم، ومن ذلك أن قريشاً ومن اتبع طريقها كانوا يُسَمَّون الحُمْس (المتميزون)، حيث كانوا لا يقفون بعرفة في الحج مع الناس، وكان موقفهم في المزدلفة، ويقولون: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم(1).
فلمّا جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثمّ يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 199).
بل إنهم كانوا يتعجبون من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة مع الناس، حتى قال أحدهم: هذا والله من الحمس، فما شأنه ها هنا(2)؟!
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الموقف بعرفة والإفاضة إلى مزدلفة مع الناس وفي مواقعهم هي الصواب والحج المقبول، أما من اتخذ موقفاً يزعم أنه له خاصة فلا يجوز له ذلك، حيث روى الإمام مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ عرفةَ موقِفٌ، وارتفعوا عن بطنِ عرنة، وَكُلُّ المزدلفةِ موقفٌ، وارتفعوا عن بطنِ مُحسِّرٍ، وَكُلُّ منًى منحرٌ، إلَّا ما وراءَ العقبةِ»، إنه يعلن المساواة الكاملة بين الناس وإزالة الفوارق والطبقات بينهم.
رابعاً: ترسيخ مبدأ المساواة في خطبة الوداع:
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ترسيخ مبدأ المساواة حين وقف على عرفات في العام العاشر من الهجرة، وخطب في الناس خطبة الوداع، وكان مما قاله فيها: «أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي، ولا عجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمرَ على أسودَ، ولا أسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، ألا هل بَلَّغْتُ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فلْيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ»(3)، إنها المساواة الكاملة التي تتجلى في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
__________________________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (3/ 516).
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة (1581)، وأخرجه مسلم، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة (1220)، عن سيدنا جبير ابن مطعم عن أبيه.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (23489).