ما أشبه حرب الإبادة التي تمارس على غزة من اليهود المحتلين ومن والاهم -ممن نعلم وممن لا نعلم- بسورة «براءة»، التي تبرأت من المشركين وكشفت المنافقين وفضحت مخططاتهم وأحوالهم، وسنسلط الضوء في هذا المقال على إحدى آيات هذه السورة العظيمة التي بينت للمؤمنين خطورة الأعداء الداخليين الذي أظهروا الإسلام وأخفوا كفرهم به وحقدهم على المسلمين، ومعلوم في علم الإستراتيجية العسكرية أنه لن يتحقق نصر كامل على العدو الخارجي حتى ننتصر على العدو الداخلي.
قال الله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة: 101)، فالمنافقون يعيشون بيننا وحولنا، تارة نراهم على شكل قنوات فضائية ورجال إعلام، وتارة على شكل مثقفين أو سياسيين، ويتنوع ظهورهم من حالات فردية إلى مؤسسات وشخصيات اعتبارية إلى دول وأنظمة، القاسم المشترك بينهم أنهم «مردوا على النفاق»؛ ومعنى مردوا عليه: اعتادوه وأقاموا عليه ولم يتوبوا منه، بل مرنوا عليه ودَرِبوا به وأبَوا غيره، كما قال الطبري في تفسيره، ومنه «شيطان مارد ومريد»، وهو الخبيث العاتي المتمرد على ربه المقيم على معصيته، وقال الراغب: «والمارد والمريد من شياطين الإنس والجن: المتعري من الخيرات» (المفردات).
وهؤلاء قد نعلم بعضهم ويخفى عنا غيرهم، (لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)، إلا أن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه سيعلمهم من سقطات ألسنتهم، قال تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (محمد: 20)؛ أي: «لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ويتبين بفلتات ألسنتهم، فإن الألسن مغارف القلوب يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر» (تفسير السعدي)، فكلامهم سيدل على خبث مقاصدهم، وستصدق أفعالهم بعد ذلك سوء طواياهم.
وقال البغوي في تفسيره: «والمعنى: إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله، ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته».
وكم كشفت «طوفان الأقصى» من هؤلاء الذين مردوا على النفاق، حتى أصبح كذبهم مفضوحاً! وعلى الرغم من ذلك نراهم يصرون على غيهم وضلالهم، بل ويرمون المجاهدين ومناصريهم بأفظع التهم وبأشد الألفاظ، ويبرئون العدو من المسؤولية واستحقاق العقاب، يتغيون بهذا الأسلوب الوضيع رمي ما فيهم من سوء على أصحاب الحق، وصدق من قال: «رمتني بدائها وانسلت».
ويزداد خطر هؤلاء المجرمين مردة المنافقين بحسب ما يملكون من أدوات تأثير، فإن كان يتربع على سلطة تنفيذية أو تشريعية كان خطره أعظم، وكذا من يتصدر وسائل الإعلام الرسمي أو البديل، فإن خطره يزداد خاصة عند غياب المراقبة والمحاسبة، وكأن القوانين قد استثنتهم من التجريم، بخلاف المؤمنين المصلحين الذين يحاسبون على مجرد رفع علم فلسطين، أو بذل مال لأهل غزة، أو تغريدة أو تدوينة ونحو ذلك من أشكال النصرة والتأييد، حتى أصبحت ساحات الغرب وميادينه -على الرغم من الإجراءات القمعية بحقهم- أرحب من ساحات العالم الإسلامي وميادينه!
وإلى هؤلاء يقول رب العزة: (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ)؛ أي عذاباً في الدنيا وعذاباً في القبر، (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ)؛ أي في الآخرة.
وإلى هؤلاء نقول: عودوا عن غيكم ونفاقكم قبل أن يأتي زمان لا ينفع فيه الندم، فإنكم إن استطعتم خداع الناس حيناً من الزمن، فإنكم حتماً لن تتمكنوا من خداعهم دائماً، وسيُكشف أمركم لهم، وعند ساعة النهوض من الغفلة سيجرفكم التيار الثائر على الواقع الظالم وسيكون قد فات الأوان؛ (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) (ص: 3).
وشتان ما بين هذا النفاق المتأصل فيهم، وما قد يعتري المؤمن من شعور بالتقصير حتى يتهم نفسه بالنفاق، فهذا الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، يشكو ما وجد في نفسه للصديق أبي بكر رضي الله عنه، فيقول له: نافق حنظلة! فقال الصديق: سبحان الله ما تقول؟! قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.
فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟»، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» ثلاث مرات؛ أي لا يكون الرجل منافقاً بأن يكون في وقتٍ على الحضور والتدبر والتفكر وأداء حقوق الله، وفي وقتٍ على الفتور وقضاء حوائج نفسه ومخالطة أولاده وزوجه وأمواله.
فشتان ما بين حنظلة، وابن سلول!
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.