يقدم كتاب «مواقف تاريخية لعلماء الإسلام»، الصادر عام 1984م، إطلالة على مواقف تاريخية لعلماء الإسلام، خاصة رجال الأزهر الشريف، ممن قدموا نماذج نادرة لعلماء أجلاء قالوا كلمة الحق في وجه السلطان، دون أن يسحرهم المنصب أو المال، أو تصيبهم الرهبة من حاكم أو رئيس.
ويستعرض مؤلف الكتاب د. محمد رجب البيومي، عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة سابقاً، جملة من المواقف لأعلام الأزهر في الذود عن الحق والوقوف في وجه الباطل، مطالباً برصد وإحصاء وتوثيق هذه المواقف الخالدة، وعدم كتمان تلك الوقفات لأهل العلم والفتوى، ليعلم الجميع أن الروح القرآنية التي ألهمت سعيداً بن جبير، وسعيداً بن المسيب، وابن حنبل، والعز بن عبدالسلام، هي نفسها الروح القوية التي سرت في نفوس علماء الأزهر، فواجهوا الباطل بلسان صدق مبين.
إطلالات الكتاب القيم، وعدد صفحاته 235 صفحة، استعرضت ما صدر عن العالم المصري الجليل الشيخ محمد أبو زهرة (1898 – 1974م)، حينما دُعي إلى ندوة إسلامية كبرى بإحدى العواصم العربية، ويوم افتتاح الندوة حضر رئيس الدولة ليلقي كلمة الافتتاح، قائلاً: إن الاشتراكية هي المذهب الإسلامي، ولم يتقدم أحد ليعلق على مـا قاله هذا الرئيس، ولكن أبو زهرة طلب الكلمة، وقال بشجاعة: نحن علماء الإسلام وفقهاؤه، وقد جئنا إلى هذه الندوة لنقول كلمة الإسلام كما نراها نحن لا كما يراها السياسيون، ومن واجب رجال السياسة أن يستمعوا للعلماء، وأن يعرفـوا أنهم متخصصون فاهمون، لا تخدعهم البوارق المُضرية، وقد درسوا ما يسمى بالاشتراكية، فرأوا الإسلام أعلى قدراً، وأسمى اتجاهاً من أن ينحصر في نطاقها، وسيصدر المجتمعون رأيهم كما يعتقدون، لا كما يريد رجال السياسة، فهم أولُو الأمر في هذا المجال.
يقول البيومي، معلقاً في كتابه الثري بالمواقف والعبر والدروس: إن الندوة التي كان مقرراً انعقادها في تلك الدولة لمدة أسبوع كامل، لم تواصل أعمالها، وكان حفل الاستقبال حفل ختامها، بعد موقف أبو زهرة التاريخي والحاسم والنادر.
ويعد شيخ الأزهر الراحل الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881 – 1945م)، أحد نجوم ورجال كتاب «مواقف تاريخية لعلماء الإسلام»، حين سطر موقفاً سيظل عالقاً في ذاكرة التاريخ، وهو من كان لا يرهبه جاه أو سلطان.
يستذكر الكتاب ما تعرض له المراغي من محنة شديدة أثناء توليه القضاء، فعندما طلق الملك فاروق زوجته الملكة فريدة، أراد الملك أن يُحرم عليها الزواج من بعده، ورفض المراغي أن يصدر فتوى بذلك، وذهب الملك إليه، وكان يعالج في مستشفى المواساة، فقال المراغي كلمته المشهورة: «فأما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم فلا أملكه»، ولما غلظ عليه الملك، صاح الشيخ: «إن المراغي لا يستطيع أن يُحرم ما أحل الله».
وفي إطلالة أخرى، يوثق الكاتب موقفاً تاريخياً عندما تلقى شيخ الأزهر الراحل عبدالمجيد سليم (1882 – 1954م)، وكان مفتياً للديار المصرية، سؤالاً من مجلة معارضة للملك، عن مدى شرعية إقامة الحفلات الراقصة في قصور الكبار، وقد حمل رسالة المجلة إليه أحد أمناء الفتوى في دار الإفتاء، ولفت نظره إلى أن الملك قد أقام حفلاً راقصاً في قصر عابدين، فالفتوى إذن سياسية، وتريد المجلة بذلك الوقيعة بين الشيخ والملك، فقال: وماذا في ذلك؟ إن المفتي إذا سئل فلا بد أن يجيب ما دام يعلم الحكم، وأصدر فتواه بحرمة هذه الحفلات.
وتناول الكتاب مواقف عدة لشيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1917 – 1996م)، فقد كان أول من أعلن أن حرب الإبادة في البوسنة والهرسك، صليبية وهدفها إبادة المسلمين، وكان أول من دعا لعقد مؤتمر إسلامي في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة لمناصرة شعب البوسنة والهرسك، وأعلن أن مسلمي البوسنة والهرسك لا يحتاجون إلى مجاهدين بقدر حاجتهم إلى المال والسلاح.
وعندما قرر الكونجرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أصدر الإمام الراحل بياناً صريحاً وواضحاً أدان فيه العدوان الصهيوني المستمر على القدس، كما أدان فيه القرار الأمريكي، واعتبره دعماً للمعتدين الظالمين، كما رفض الإمام الراحل سياسة التطبيع مع «إسرائيل»، وقال: إنه لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية، كما أعلن رفضه زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتى بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م، وعن الأسرى المصريين الذين قتلتهم «إسرائيل» عمداً إبان حرب يونيو 1967م قال فضيلته: إن القتل العمد ضد أسرانا يستحق القصاص.
وكان للإمام الأكبر موقف مشهود من مؤتمر السكان الذي انعقد بالقاهرة عام 1994م، فقد خاض الشيخ الراحل معركة شرسة ضد بعض البنود الواردة في وثيقة المؤتمر، وأصدر بياناً شديد اللهجة يرفض وثيقة المؤتمر، مؤكداً أن الإسلام لا يقر أي علاقة جنسية بغير طريق الزواج الشرعي الذي يقوم بين الرجل والمرأة، كما يحرم الإسلام الزنى واللواط والشذوذ، ويحرم إجهاض الجنين ولو عن طريق الزنى، وأهاب البيان بالأمة الإسلامية عدم الالتزام بأي بند أو فقرة تخالف شرع الله.