يعتقد كثير من الناس أن المسلمين بدأ تواجدهم في أوروبا كمهاجرين في القرن العشرين، ويُظهر العديد من المؤرخين المحترفين والسياسيين والإعلاميين في أوروبا، وليس المواطن العادي فقط، استياءهم إذا قلنا: إن الوجود الإسلامي قائم في أوروبا منذ أكثر من 1400 عام، من منتصف القرن السابع الميلادي، فماذا يذكر التاريخ؟
يسجل التاريخ أن المسلمين كانوا في كثير من مناطق أوروبا من سكانها الأصليين، الذين دخلوا الإسلام طواعية، غالباً قبل دخول الأوروبيين في المسيحية، ومصدر الدينيين من خارج أوروبا، فمثلاً دخلت المسيحية روسيا والقرم لما اعتنقها أمير كييف فلاديمير الأول عام 988م وكانوا يعبدون القوى الطبيعية.
كانت أولى الدول الإسلامية الأوروبية إمارة في جنوب القوقاز، في منتصف القرن السابع الميلادي، ثم في جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس)، في بداية القرن الثامن الميلادي، ولكن مناهج التعليم ووسائل الإعلام في أوروبا تتجاهل هذه الحقائق فتحذفها أو تذكرها عرضاً.
وقد شملت هذه الدول، في فترات الحكم (المباشر وغير المباشر) في شمال أوروبا أراضي واسعة من روسيا، بما فيها موسكو، وفي الجنوب شملت جنوب فرنسا، وجنوب إيطاليا، وجنوب سويسرا، وكذلك جميع جزر البحر المتوسط الكبرى من قبرص ورودس وكريت ومالطا وصقلية وسردينيا وكورسيكا، ومايوركا، وكل البلقان وهنغاريا (المجر) وضواحي فيينا(1).
– القوقاز:
القوقاز تقع بين بحر قزوين شرقاً والبحر الأسود غرباً، ويعود قيام أول دولة إسلامية على الأرض الأوروبية إلى عام 653م، عندما تأسست إمارة إسلامية في منطقة جنوب القوقاز، وقد سبق قيام تلك الإمارة أول قدوم منظَّم للمسلمين إلى أوروبا في عام 641م لما سيطر الصحابي عبدالرحمن بن ربيعة الباهلي على أجزاء تقع جنوب القوقاز، وبحسب شهادته، فإنه التقى عند وصوله بجالية مسلمة تقيم هناك(2).
قيام أول دولة إسلامية على الأرض الأوروبية عام 653م عندما تأسست إمارة إسلامية بجنوب القوقاز
وطبقاً للمؤرخين المسلمين، استمرت الفتوحات 10 سنوات بين 22 – 32هـ/ 642 – 652م، وذكر ابن كثير أن الباهلي سار في بلاد بلنجر (القوقاز) 200 فرسخ(3)، وقال الطبري: «فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله مائتي فرسخ من بلنجر»(4).
وطبقاً لذلك، فإن الباهلي توغل شمالاً مسافة 950 كيلومتراً، وهذا يعني بلوغ قوات الفتح الإسلامي إقليم فولغوغراد، وسط جنوب روسيا اليوم.
وقامت الفتوحات الثانية بين عامي 722 و737م، وانتهت بهزيمة الخزر (بين مصب نهري الفولغا والدون) على يد مروان بن محمد (عهد هشام بن عبدالملك)، ورغم انتصارهم، لم يتمكن المسلمون من القضاء على مملكة الخزر(5).
والدارسون لأوروبا الشرقية يعرفون أن الإسلام قد بدأ يتغلغل في مملكة الخزر من القرن الثامن الميلادي؛ وفي بداية القرن الحادي عشر أصبح الدين الذي يعتنقه أكبر عدد من الناس، وإن لم يكن صاحب النفوذ السياسي، ويعرفون أن الإسلام في مملكة فولغا بلغاريا في روسيا، انتشر في نهاية القرن التاسع، والنصف الأول من القرن العاشر، وأصبح وطيد الأركان(6).
يقول مفتي روسيا: «تم إعلان الإسلام دين الدولة في فولغا بلغاريا عام 922م؛ أي قبل 66 عاماً من اعتماد المسيحية الأرثوذكسية ديناً رسمياً لروس كييف»، وقال: «الإسلام وصل إلى روسيا في القرن السابع الميلادي، فقد جاء أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى مدينة تعرف حالياً باسم ديربنت، وهي جنوبي داغستان، وتم رفع أول أذان فيها»(7).
– الأندلس:
أسست الدولة الإسلامية على التراب الأوروبي في إسبانيا، قبل قيام دولة الملك شارلمان المسيحية، بمرسوم باباوي، بنصف قرن، فقامت دولة الأندلس الإسلامية -وعاصمتها قرطبة بإمارة عبدالرحمن بن معاوية الأموي- عام 756م، وكان بداية الفتح عام 92هـ/ 711م، وبحلول عام 720م صار معظم إسبانيا تحت سيطرة المسلمين.
أسست الدولة الإسلامية على التراب الأوروبي بإسبانيا قبل قيام دولة الملك شارلمان المسيحية بنصف قرن
والمعطيات التاريخية تؤكد تهافت وسقوط الادعاء القائل بأن أوروبا قارة اليهودية-المسيحية المحضة، فالجزء الأكبر من أوروبا (كل إسكندنافيا، التي بدأ تحولها من الوثنية للمسيحية متأخراً في القرنين العاشر والحادي عشر، وشمال ووسط وشرق أوروبا وروسيا وأوكرانيا) ظل وثنياً لقرون عديدة، بعد تقبل مناطق أوروبية واسعة الإسلام، وتأسيس عدد من الدول الإسلامية في أوروبا، وكانت الأندلس أكثر الدول الأوروبية نمواً اقتصادياً وثقافياً، والأقوى عسكرياً(8).
– القرم:
تمتد شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، وصل الإسلام إليها عن طريق التتار، في عهد القبيلة الذهبية أو مغول الشمال، أول قبائلهم اعتناقاً للإسلام، يرجع نسبهم إلى جوتشي الابن الأكبر لجنكيز خان، ولما مات جوتشي أقطع أبوه لحفيده (باتو) بلاد روسيا وخوارزم والقوقاز وبلغاريا، وسّع باتو أراضيه واستولى على مدينة كييف عام 1240م، وفي ذروة توسعها امتدت أراضي القبيلة من جبال الكاربات بأوروبا الشرقية (بين التشيك وبولندا وسلوفاكيا والمجر) إلى سهول سيبيريا، وأتم بركة خان (شقيق باتو) بناء عاصمته مدينة ساراي على نهر الفولغا بالقسم الأوروبي (مدينة ساراتوف في روسيا)، وبنى بها المساجد والمدارس الإسلامية وجلب لها الفقهاء وجعلها أكبر مدن العالم، وصفها ابن بطوطة: «من أحسن المدن، عظيمة الأسواق مبنية على نهر إتل (الفولغا)»(9).
وصل الإسلام إلى شبه جزيرة القرم عن طريق التتار بعهد القبيلة الذهبية أول قبائلهم اعتناقاً للإسلام
وعندما وصل التتار جذبوا من كان فيها من الإغريق والإيطاليين للإسلام، ودعوا إليه جيرانهم، ثم استقلت دولة القرم تحت حكم كيراي (1427م)، ومدت نفوذها، وبلغ من قوتها أنّ إمارة موسكو كانت تدفع للسلطان محمد كيراي جزية سنوية، ثم خضعت موسكو لحكمه عام 1571م(10).
– صقلية:
دخل المسلمون لأول مرة أرض جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط عام 652م، وبعد محاصرة طويلة عام 831م دخل المسلمون العاصمة باليرمو، وبانتقال صقلية لحكم سلالة الكلبي عام 948م، بلغت صقلية أَوجها فرفعت الأنشطة المعمارية والثقافية والتجارية الملموسة من نوعية الحياة والازدهار إلى مستويات لم تكن متخيلة، شهد بذلك مؤرخ معاصر لتلك الحقبة: «باليرمو حقاً واحدة من المدن الأكثر تقدماً والأكبر في أوروبا، مع أكثر من 300 ألف نسمة، و300 مسجد، إنها العاصمة الحقيقية للعالم الإسلامي في أوروبا»(11).
دخل المسلمون لأول مرة أرض جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط عام 652م وبها أكبر مدن أوروبا
– البلقان:
شبه جزيرة البلقان، منطقة ثقافية وجغرافية تُعرف بجنوب شرق أوروبا، تقع في شرق إيطاليا، وشمال غرب الأناضول، ويعود تاريخ تأثير الإسلام ووجوده الفاعل فيها إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي -على النقيض من المزاعم المعتادة والخاطئة بجهل وتجاهل، التي تقول: إن الإسلام لم يأتِ إلى شبه جزيرة البلقان إلا في وقت مجيء العثمانيين- فتُثبت الدراسات الحديثة على نحو لا لبس فيه، أن الإسلام قد امتدت جذوره في البلقان قبل وصول العثمانيين، وخلال هذه الفترة، استقر المسلمون على ساحل تراقيا الجنوبية (تتقاسمها بلغاريا، اليونان، وتركيا)، وفي خليج سالونيك (في اليونان)، وعلى ساحل ألبانيا الشرقي، وفي أجزاء مما يشكل كرواتيا حالياً.
وبتقدم الدولة العثمانية، خلال القرون الثالث عشر إلى الخامس عشر، تواصلت هذه الفئات المسلمة فيما بينها بقوة، وتطورت سياسياً واقتصادياً إلى مراكز حضرية وإدارية للثقافة الإسلامية، وفي عهد السلطان سليم الثاني (1524 -1574م)، سُجل ازدياد كبير في عدد السكان المسلمين، من خلال القبول الجماعي الطوعي للإسلام من السكان الأصليين، في بلغاريا ورومانيا واليونان، وجميع الجزر الكبيرة، وألبانيا، والبوسنة، وصربيا، وأجزاء من كرواتيا، وسلوفينيا، وبالتالي أقيمت الأسس السكانية لتواجد المسلمين الأصليين في هذا الجزء من أوروبا اليوم(12).
يعود تاريخ تأثير الإسلام ووجوده الفاعل بمنطقة البلقان إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي
عندما نأخذ في الاعتبار أن وجود المسلمين بثقافتهم ودينهم في جميع أنحاء هذه المناطق المذكورة كان يشكِّل باستمرار واحداً من أهم عناصر هويتها، يصبح من الواضح أن الواقع السكاني-الجغرافي والتكوين العِرقي والديني والأخلاقي والتقدم العلمي والتخطيط السياسي والاقتصادي والعسكري في أوروبا لا يمكن فصله على الإطلاق عن العناصر الإسلامية، وأن المسلمين كانوا ولا يزالون جزءاً أصيلاً ومؤثراً ومهماً من النسيج الأوروبي، وإن تناس الناس فالتاريخ لا ينسى!
___________________________
(1) فريد موهيتش، المكونات الإسلامية لهوية أوروبا، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2016، ص275.
(2) Haverić, History of the Muslim Discovery of the World, Deakin University, 2012.
(3) ابن كثير، البداية والنهاية، القاهرة: مطبعة السعادة، ج7، ص123.
(4) الطبري، تاريخ الطبري، دار المعارف، 1967، ج4، ص158.
(5) المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج3، ص410.
(6) سرطاوي، الإسلام في أوروبا الشرقية في أمسية الغزو المنغولي، مجلة الرسالة، العدد 969، ص14.
(7) إلينا تيسلوفا، «مفتي روسيا: لدينا 25 مليون مسلم يتعايشون مع بقية أطياف المجتمع»، وكالة الأناضول، 11 مارس 2018م.
(8) موهيتش، ص20.
(9) ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 1417هـ، ج2، ص240.
(10) Encyclopedia Britannica, “Golden Horde”, 6 Dec، 2023.
(11) Lewis, The Arabs in History, Oxford University Press, 2002: 94-95.
(12) موهيتش، ص275.