متشحين بالكوفية والألوان الفلسطينية، جلس أعضاء اللجنة العلمية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة القاضي عياض بمدينة مراكش المغربية، وهم يناقشون باهتمام بالغ أطروحة دكتوراة استثنائية، أمام جمع كبير وغير مسبوق من الطلبة والباحثين والمهتمين.
صدعت القاعات بالتكبيرات والتصفيق الطويل، حين أعلنت اللجنة عن منح الطالب درجة الدكتوراة بميزة مشرف جداً مع توصية بالطبع، عن موضوع «التهرب الضريبي في فلسطين».
لم يكن الأمر يتعلق سوى بالطالب الفلسطيني هاني دراوشة، الذي توفي قبل حوالي العام، عندما كانت إجراءات المناقشة على وشك الاكتمال.
حضر صديقه الفلسطيني أحمد أبو الوفا المناقشة ممثلاً للطلبة الفلسطينيين في المملكة المغربية وعن أهل وذوي الفقيد وأصدقائه ومحبيه، ملقياً كلمة بهذا الخصوص.
يقول لـ«المجتمع»: عند الإعلان عن نتيجة المناقشة، كان شعوراً لا يوصف، فرح ممزوج بحزن، وفخر بما زرع وقدم الطالب الفقيد ليصل إلى يوم الحصاد الذي كان منقوصاً بسبب غياب الطالب الباحث صاحب العمل والجهد.
ولد هاني بمدينة نابلس عام 1979م، وحصل على شهادة الإجازة (البكالوريوس) والماجستير من جامعة النجاح الوطنية، وكان يعمل قيد حياته محاسباً بوزارة التربية والتعليم الفلسطينية في رام الله.
فاز بمنحة دراسية لإكمال دراسته في سلك الدكتوراة بالجامعة المغربية، في إطار التعاون الدولي بين البلدين كما هي الحال مع سائر البلاد والتعاون العلمي.
يضيف صديقه أحمد: كان الفقيد قد أنهى كافة متطلبات الحصول على درجة الدكتوراة بعد أن كان أمضى 5 سنوات؛ لأنه مسجل منذ عام 2018 – 2019م عندما باغته الموت، ونحن بصفتنا زملاء له وبناء على رغبة أهله، سعينا لإتمام مراسيم المناقشة، وفرحنا جداً بمجرد إعلان الكلية عن موعد مناقشة أطروحة الطالب بأن تعبه لن يذهب سدى.
بدروه، يقول الأكاديمي المغربي محمد الغالي، أحد أعضاء لجنة المناقشة، لـ«المجتمع»: إن مناقشة الأطروحة كانت بمثابة تكريم للطالب وتقديراً لجهوده العلمية، آتية في سياق الدعم المقدم للطلبة الفلسطينيين من قبل المغرب.
ولاحظ أن العاهل المغربي محمد السادس ضاعف المنح الدراسية المخصصة لهؤلاء الطلبة نظراً لظروف الحرب المعلنة ضد الشعب الفلسطيني.
مقاومة
من حضر المناقشة التي استمرت حوالي ساعتين ونصف ساعة في أجواء علمية خالصة، يكتشف مدى الجهد المقدر الذي بذله الطالب في إعداد أطروحته، ولم يكن الأمر مجاملة كما قال أعضاء اللجنة حين منحوه ميزة مشرفة جداً، بل وأوصوا بطبعها.
كانت أجواء التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الصهيوني بادية في ذلك الحفل البهيج، فالألوان الفلسطينية كانت تملأ القاعة، كما عبارات الصمود والمقاومة.
ويستطرد أبو الوفا، وهو محامٍ وباحث في سلك الدكتوراة أيضاً: الشعب الفلسطيني شعب مقاوم ومثابر على العلم والتعليم، ولا أبالغ إن قلت لكم: إن نسبة الأمية في فلسطين صفر، لا ننكر أن للحرب تأثيرها على كافة القطاعات في فلسطين بما فيها قطاع التعليم على صعيد تدمير وهدم المدارس والجامعات خاصة في قطاع غزة، أما على المستوى البشري فلا شيء ولا قوة تكسر الباحث والطالب الفلسطيني ولا تثنيه عن مواصلة مسيرته العلمية.
ولاحظ الأكاديمي محمد الغالي أن ردود الفعل كانت متلاحمة ومنسجمة مع قيم المملكة المغربية وشعبها، والمعروفة بدعمها لنضالات الشعب الفلسطيني، وبالتالي فإن هذه المناقشة اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها بالرغم من أن الجسد كان غائباً، لكن روح الفقيد كانت حاضرة، والكل اعتبر أن إجراء المناقشة في ظروف الحرب، هو تكريم للشعب الفلسطيني وتكريم للطالب الذي كان يدافع عن قضيته.
استحسان
لقيت مبادرة مناقشة أطروحة الطالب الفلسطيني استحساناً كبيراً سواء من قبل المسؤولين أو على مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول رئيس لجنة المناقشة د. إدريس لكريني: إن الطالب الفلسطيني فارق الحياة في حادثة سير بالضفة الغربية، في الفترة التي بدأ يتوصل فيها مركز الدكتوراة بالكلية بتقارير إيجابية بشأن الأطروحة، ليتقرر بعد ذلك تنظيم هذه المناقشة التي رغم بعدها الإنساني، فإنها لم تكن مجاملة ولم تمس بأصول البحث الأكاديمي والأمانة العلمية، وإنما شكلت مبادرة تعكس الحرص على عدم ضياع هذا الجهد العلمي وليكون متاحاً أمام الطلبة والباحثين للاستفادة منه.
وذكر أنه ليست هذه المرة الأولى التي تناقش أطروحة علمية بعد وفاة صاحبها، فيما علق الأستاذ الجامعي إمحمد المالكي على المبادرة بكونها ذات بعد علمي مع احترامها للتقاليد المألوفة في المناقشات، وبعد إنساني كما هو جاري به العمل في الكثير من جامعات العالم، وبعد رمزي لكونها جاءت في سياق حرب الإبادة على فلسطين.
شكر
ولم يفت الصديق أبو الوفا شكر جميع أعضاء اللجنة، وخص بالذكر الأستاذة المشرفة نجاة العماري، ود. محمد الغالي، اللذين لم يتوانيا ولو للحظة لإتمام هذه المناقشة على اعتبارها حق واستحقاق علمي للطالب الفقيد، وهذا ما أكده رئيس جامعة القاضي عياض في كلمته وكذلك عميد الكلية.
ويضيف: بالرغم من الظروف الصعبة على كافة المستويات، فإن ذلك لا يزيد الشعب الفلسطيني إلا ثباتاً وتمسكاً بقضيته بما في ذلك العلم والتعليم الذي يعتبره الشعب الفلسطيني سلاحاً يقاوم به على كافة الأصعدة وفي كل المحافل الدولية.
ويبرز أن العلاقة بين الشعبين المغربي والفلسطيني علاقة تاريخية، مضيقاً أنه لا يبالغ إن قال: إنه وكافة الزملاء والطلبة لم يشعروا يوماً بأنهم في غربة طالما كنا في المغرب الحبيب.
ويختم: إذا أخذنا موضوع مناقشة الأطروحة في هذا الجانب، فإن موقف المملكة المغربية مشرف تجاه القضية الفلسطينية.