وردت كثير من الآيات التي توجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بسُنته، ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء: 59)، وقوله سبحانه: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء: 80)، وقوله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7).
وكان الصحابة يُجلّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدون به في سلوكه وأعماله، فإذا أحب شيئًا أحبوه، وإذا ترك شيئًا تركوه، فاتخذ خاتمًا من ذهب أو فضة؛ فاتخذ الناس مثله؛ فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: «لا ألبسه أبدًا»، ثم اتخذ خاتمًا من فضة؛ فاتخذ الناس خواتيم من فضة(1).
تدوين الحديث
لم تدون السُنَّةُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تختلط بالقرآن بما يفتح باب الشك لأعداء الإسلام، وينفذون منها إلى المسلمين لحملهم على التَحَلُّل من أحكامه، وبهذا نفهم سِرَّ نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابتها في حياته بقوله: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُه»(2)، وأذن لهم أن يحدثوا عنه، وحذرهم بأن من كذب عليه متعمداً؛ فجزاؤه النار.
ولما وقعت الفتنة عام 40هـ بين عليّ، ومعاوية التي سالت فيها الدماء وانتشرت الأهواء والانقسامات وتعددت الفرق والمذاهب؛ وحاول أنصار كل حزب أن يؤوّل القرآن على غير حقيقته، وأن يُحمِّلُوا نصوص السُّنّة ما لا تتحمَّلُه؛ فاتجهوا إلى وضع الأحاديث التي تؤيد مزاعمهم، وكانت الشيعة من أكثر الفرق وضعًا في فضائل عليّ ومثالب الصحابة حتى أعرض علماء الحديث عن الأخذ عنهم؛ وبالرغم من تشيّع ابن أبي الحديد فإنه أوضح في «شرح نهج البلاغة» جانبًا من الأحاديث التي وضعها الشيعة وتناقلونها في فضائل عليّ ومثالب الصحابة، ثم علق عليها بقوله: «فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله»(3).
اتجه أعداء الإسلام الذين لم يجدوا بُدَّا من محاربته من الانضواء تحت لوائه ظاهرًا والدس فيه، وتلك التي عرفت بالزندقة، وأكثرهم من الفرس الذين تَسَتَّرُوا بالتشيع لينقضوا عُرَى الإسلام، أو مِمَّنْ أسلموا ولم يستطيعوا أن يتخلَّوا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فلم يجدوا أمامهم مجالاً للانتقام من الإسلام إلا إفساد عقائده، وتشويه محاسنه، وكان التزيد في السُّنَّة أوسع ميادين الدَسِّ والإفساد لديهم متسترين بالتشيع أو بالزهد والتصوف أو بالفلسفة والحكمة أحياناً أخرى؛ فأكثروا الوضع في فضائل الأشخاص والبلاد، وقصص الوعظ والزهد، مما دفع الدولة العباسية في بداية عهدها إلى تعقب حركة الزندقة بالقتل والتشريد(4).
ترجع بداية التدوين الرسمي للحديث إلى عمر بن عبدالعزيز (99 – 101هـ) الذي أرسل إلى جميع الأمصار بجمع وتدوين الحديث في كتاب بقوله: «انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه»، وعهد بتدوين السُّنة إلى حافظ عصره محمد بن شهاب الزُّهْري (ت 124هـ)؛ فجمع السنن في عدة أجزاء؛ وتم نسخها وأرسل إلى كل بلد نسخة منها(5).
وشاع تدوين السُّنة في القرن الثاني الهجري في جميع البلاد، وبرز فيه كبار المحدثين، أمثال: سعيد بن أبي عروبة (ت 156هـ)، والأوزاعي (ت 157هـ)، وشعبة بن الحجاج (ت 160هـ)، وسفيان الثوري (ت 161هـ)، وحماد بن سلمة (ت 167هـ)، وأنس بن مالك (ت 179هـ)، وعبدالله بن المبارك (ت 181هـ)، وسفيان بن عُيينة (ت 198هـ)، وغيرهم.
ويعتبر التدوين في القرن الثالث الهجري أزهى عصور السُّنة؛ حيث برز فيه كبار أئمة الحديث الذين انتقلوا إلى مرحلة متقدمة في التأليف على طريقة «المسانيد» بجمع كل ما يروى عن الصحابي في باب واحد، ومن أشهرها مسند ابن أبي شيبة، ومسند أحمد بن حنبل، لكن امتزج فيها الصحيح بغيره، وهو ما جعل أئمة الحديث الاقتصار على الصحيح فقط على نحو ما فعل البخاري (ت 256هـ)، ومسلم (ت 261هـ)، وتبعهما علماء كثيرون من أصحاب السنن مثل ابن ماجه (ت 273هـ)، وأبو داود (ت 275هـ)، والترمذي (ت 279هـ)، والنسائي (ت 303هـ)(6).
نقد الحديث وتوثيقه
اتخذ علماء الحديث خطوات متقدمة في نقد الحديث وتميز الصحيح من الزائف، وإخضاع الأحاديث لشروط الرواية وبيان صحيحها من زيفها، ووضعوا في ذلك القواعد التي تفرعت عنها، ومنها:
1- إسناد الحديث: يقصد به تسلسل الرواية متصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقبلون منها إلا ما عرف رواتها واطمأنوا إلى ثقتهم وعدالتهم؛ فيقول ابن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمَّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ منهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»، ويقول ابن المبارك: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»(7).
2- نقد الرواة: تطرق علماء الحديث إلى دراسة أحوال الرواة ودرسوا حياتهم وتاريخهم وما خفي من أمرهم وما ظهر، واهتموا بمعرفة الكذابين من الرواة، وما كذبوا فيه؛ فلم يفلت منهم أحد، ووضعوا القواعد لمعرفة الموضوع، ووضعوا المصنفات في المتروكين، ووضعوا قواعد لنقد المتن، ومنها: ركاكة اللفظ، وفساد المعنى أو ما يدعو إلى شهوة أو شهرة أو مخالف للحس والمشاهدة أو مخالف لما استقر على الطب أو مخالف لسنن الكون أو ما اشتمل على سخافات يصان عنها العقلاء، أو مخالفته لصريح القرآن.
علوم الحديث
وضع علماء الحديث قواعد منظمة لقبول الرواية، وتطورت تلك القواعد إلى علوم مستقلة، ومنها:
– «علم مصطلح الحديث»: علم يبحث فيه عن تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، وتقسيم كل من هذه الثلاثة إلى أنواع، وبيان الشروط المطلوبة في الراوي والمروي، وما يدخل الأخبار من علل واضطراب وشذوذ، وما ترد به الأخبار، وما يتوقف فيها، وبيان كيفية سماع الحديث وحمله وضبطه وآداب المحدث وطالب الحديث، وغير ذلك، وهي أصح ما يعرف في التاريخ من قواعد على أسس علمية للرواية والأخبار لا مجال بعدها للحيطة والتثبت، وكان لها أثر كبير في العلوم الأخرى.
– «علم الجرج والتعديل»: علم يبحث فيه عن أحوال الرواة وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم أو العكس، وقد أدى إلى نشأة هذا العلم حرص العلماء على الوقوف على أحوال الرواة حتى يميزوا بين الصحيح من غيره، وهذا العلم لا يوجد له مثيل في تاريخ الأمم الأخرى؛ واتجه العلماء إلى تصنيف الكتب في «الجرح والتعديل»، ومن أوائل من ألَّف فيه من العلماء: يحيي بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازي، وابن حبان.. وغيرهم، ووضعت المصنفات كذلك في «الثقات»، و«الضعاف» و«المتروكين»، و«الموضوع».. وغيرهم، واستمر التأليف في هذا المجال بالإضافة والشرح والتهذيب قرونًا عديدة.
وتلك الجهود التي بذلها المحدثون في توثيق وتنقيح السُّنة النبوية بمنهج علمي نقدي أثار إعجاب المنصفين من المستشرقين وغيرهم بصحة ما توصلوا إليه بما لا مزيد عليه.
_____________________________
(1) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: كتاب اللباس، باب: خاتم الفضة، ج10، ص330، (5528).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث، ج15، ص419، (3004).
(3) شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسي البابي الحلبي، القاهرة، 1959، ج1، ص135.
(4) د. مصطفى السباعي: السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، المكتب الإسلامي، ط3، دمشق، 1982، ص79.
(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج5، ص328، فتح الباري، ج1، ص194 – 195.
(6) السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص105.
(7) مقدمة صحيح مسلم، باب الإسناد من الدين، والرواية لا تكون إلا عن الثقات، وجواز جرح الرواة وأنه ليس من الغيبة المحرمة، ج1، ص 16.