يعاني المسلمون في دول الأغلبية والأقلية من الحرب على الهوية الإسلامية، بطرق مختلفة، لكنها تمثل في النهاية تهديداً لحاضر ومستقبل الإسلام فيها، وهنا نستعرض آراء علماء بعض الدول عن دور الفتاوى الرسمية في تأكيد الهوية الدينية، ونشر الوعي الديني، ومواجهة تيارات «الإسلاموفوبيا»، والصراعات المذهبية بين المسلمين أنفسهم.
في البداية، يقول الشيخ محمد حسين، مفتي القدس والديار الفلسطينية: فتاوى تأكيد الهوية العربية والإسلامية لشعبنا تعود لبداية تاريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني، إحساساً من العلماء بخطورة الأوضاع التي يعيش فيها شعبنا، وهناك فتاوى قديمة لعلماء فلسطين -قبل إنشاء دار الإفتاء- بتحريم وتجريم بيع الأراضي لليهود أو التعاون مع الغاصبين، والتصدي للمؤامرات على فلسطين وتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى وإقامة «الهيكل» المزعوم.
حسين: لدينا فتاوى تؤكد المحافظة على الهوية ومواجهة التهويد واقتلاعنا من أرضنا المحتلة
وأوضح أن دار الإفتاء الفلسطينية الحالية تعد المرجعية الدينية الاجتهادية العليا منذ إنشائها عام 1994م، وتصدر فتاوى تؤكد المحافظة على الهوية ومواجهة مؤامرات التهويد واقتلاعنا من أرضنا، وتم استحداث 15 داراً للإفتاء كان أولها بالقدس لتصدر فتاوى تدعم وحدة شعبنا، وتحريم وتجريم الفرقة والتشرذم، ودعم الجهاد ضد المحتلين الغاصبين، والتصدي للجيش الصهيوني واعتداءات المستوطنين الغاصبين الذين يعيثون في الأرض فساداً، وهذا لا ينفصل عن الفتاوى الحياتية.
وأشار إلى وجود فتاوى تقوية التعاون مع المؤسسات الوطنية والدولية، لعرض تفاصيل وتطورات الأوضاع في الداخل والحصول على الدعم العربي والإسلامي والدولي، ونشر الفتاوى وإعداد وترجمة للبحوث الفقهية ونشرها بمختلف اللغات، واللجوء للاجتهاد الجماعي في المسائل الفقهية الشائكة لمنع الانقسامات؛ لأن رسالتنا الأولى الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية لفلسطين، ومراجعة القوانين والدساتير، والتصدي للاعتداءات الصهيونية على دور عبادتنا الإسلامية والمسيحية، ومحاولات طمس هويتنا وتاريخنا، وصبغ وطننا بالطابع اليهودي.
مشيخة البوسنة
ويوضح د. مصطفى سيرتش، المفتي السابق للبوسنة والهرسك، أن فتاوى المؤسسات الدينية في بلاده -التي تتبع المشيخة الإسلامية- أدت دوراً كبيراً في المحافظة على هوية المسلمين فيها، ليكون دورها تجسيداً حياً لدور فتاوى العلماء المخلصين الذين حافظوا على هوية المسلمين منذ دخول الإسلام لمنطقة البلقان قبل أكثر من 600 عام بالتقويم الهجري، على يد العثمانيين في عصر محمد الفاتح، وكانت عرقية البوشناق أكثر إقبالاً على الإسلام، وتمسكوا بهويتهم بإنشاء مساجد ومدارس إسلامية لمنع المسلمين من الذوبان في العرقيات والأديان المنتشرة في البلقان.
د. سيرتش: فتاوى علماء البوسنة تجسدت بأهمية التمسك بالدين والدفاع عنه بالنفس والمال
وأوضح سيرتش أن فتاوى علماء المسلمين تجسدت في أهمية التمسك بالدين والدفاع عنه بالنفس والمال، وخاصة أنهم تعرضوا لمحاولات طمس هويتهم، وأكثرها دموية وعنف على يد الصرب المتعصبين، سواء قبل إنشاء الاتحاد اليوغوسلافي عام 1918م الذي كان معادياً للإسلام، أو بعده حتى إعلان استقلال البوسنة عام 1992م، إلا أن الصرب أعلنوا استمرار حرب الإبادة وطمس هوية المسلمين وصدور قرارات محكمة مجرمي الحرب اليوغوسلافية عام 1993م، ومع هذا استمر العلماء في إصدار فتاوى تأكيد الهوية.
وأشار إلى استمرار دور فتاوى المشيخة الإسلامية في المحافظة على هوية المسلمين من الإجابة عن أسئلة العبادات أو المعاملات فيما بينهم أو مع غير المسلمين، باعتبار أن البوسنة ما زالت متعددة الأديان والعرقيات حيث يعيش مع المسلمين الصرب والكروات، وقامت المشيخة بأرشفة وحفظ فتاوى علمائها، وأنشطة هيئاتها ومؤسساتها ابتداء من عام 1882م متاحة؛ لأنها إرث ديني وتاريخي لهويتنا التي نعتز بها وضحينا من أجلها، ومعظم هذه الوثائق التاريخية مكتوبة باللغات البوسنية والعثمانية والعربية والألمانية وغيرها، وتم جمعها في حوالي 2500 مجلد.
اللاتينية والكاريبي
من جانبه، يؤكد د. عبدالحميد متولي، رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية بأمريكا اللاتينية والكاريبي، دور الفتاوى في الحفاظ على الهوية منذ دخول الإسلام إلى تلك الأراضي، عن طريق التجار والمهاجرين في 4 فترات زمنية.
د. متولي: فتاوى المؤسسات الإسلامية بالبرازيل لمقاومة أخطار الذوبان بمجتمعات مسيحية
وأوضح أن فتاوى المؤسسات الإسلامية، خاصة في أكبر تجمع لهم بالبرازيل، تهتم بمقاومة أخطار الذوبان في مجتمعات غالبيتها مسيحية، ويكثر الزواج بين المسلمين وغير المسلمات، ويحدث زواج مدني بين مسلمات وغير مسلمين، أو وجود صداقات وعلاقات غير شرعية، والمعاناة لعدم وجود الطعام الحلال بسهولة.
ولفت إلى وجود فتاوى تؤكد أهمية إجادة الدعاة لغات الدول التي يتكلم أغلبها بالإسبانية والبرتغالية وغيرها للتواصل ودعوة غير المسلمين، ونشر الوعي بين المسلمين الجدد في بلاد متعددة الثقافات والعادات، وتتميز بعدم وجود ميراث تاريخي عدائي ضدنا.
وشدد متولي على ضرورة تطوير الأداء الدعوي والإفتائي معهم، واستخدام وسائل التواصل الحديثة للمحافظة على الهوية الإسلامية، خاصة مع تصاعد «الإسلاموفوبيا»، ووجود صراعات مذهبية وسياسية بين المسلمين، التي أصدر المجلس بخصوصها فتاوى تؤكد وحدة المسلمين وتحرم وتجرم الصراعات المذهبية والفكر المتطرف.
رغم انفصال دولة جنوب السودان عام 2011م، فإن فتاوى المؤسسات الإسلامية الرسمية ما زالت قوية، هذا ما يؤكده د. عبدالله روال، الأمين العام للمجلس الإسلامي منذ عام 2018م، ويقول: مجلسنا المسؤول عن المسلمين هنا في الجنوب، وفتاواه تؤكد الهوية الإسلامية والاعتزاز بلغة القرآن، في محاولة لحماية تلك الأقلية من الذوبان رغم عدم وجود تقديرات دقيقة للتوزيع السكاني، فإنه ينتشر بين من لا دين لهم.
د. روال: مجلسنا مسؤول عن المسلمين بجنوب السودان وتعزيز الهوية الإسلامية ولغة القرآن
وعن الوضع الحالي ودور الفتاوى الرسمية في المحافظة على هوية المسلمين وسط مجتمع كانت غالبيته لا دين لهم، قال روال: عندما قامت الحرب الأهلية لنيل الاستقلال، خرج الوثنيون من القرى إلى المدن، وتحولوا للمسيحية والإسلام، وتناقصت أعداد الوثنيين جداً، وارتفع عدد المسلمين ليصبح 25% من عدد السكان البالغ عددهم 12 مليون نسمة.
وشدد قائلاً: نحن أقلية نشطة تتمتع بحرية، ولدينا أكثر من 300 مسجد جامع، ومدارس ومعاهد ومؤسسات إسلامية نشطة، وأصدرنا فتاوى تدعو للإقبال على الأوقاف والتعايش السلمي مع غير المسلمين ونبد التطرف والعنف باسم الإسلام، وجميعنا على مذهب أهل السُّنة والجماعة، وتم اعتماد العربية كلغة رسمية كالإنجليزية، ومراجعة المناهج الجديدة بالعربية لتدرس بالمدارس.
وقال: أبشر المسلمين العرب أن بلدنا الوحيد الذي ليس فيه قبائل عربية، بينما نحن جميعاً نتحدث العربية، ولدينا 64 قبيلة أفريقية 100%، يتحدثون العربية، وغالبية المسيحيين يتحدثون العربية، والدول الأفريقية المجاورة يتعلمون العربية لدينا، وقد قدمت حكومتنا طلب الانضمام للجامعة العربية كعضو مراقب.
مسلمو رواندا
من جهته، يؤكد الشيخ سالم هيتيمانا، مفتي رواندا، أن فتاوى المؤسسات الرسمية ساهمت في حماية مسلمي بلاده من الذوبان، وخاصة خلال الحرب الأهلية، ورفضت الإبادة الجماعية بحق أقلية التوتسي، وهذا ما جعل المسلمين «حمامة سلام» منذ دخول الإسلام عام 1890م، عن طريق التجار العرب من اليمن وعُمان، لافتاً إلى أنه تم بناء المساجد التي أصدر علماء منها فتاوى تحرص على تعزيز هوية المسلمين الذين دخل دينهم لرواندا قبل المسيحية.
هيتيمانا: فتاوى المؤسسات الرسمية حفظت مسلمي رواندا من الذوبان خلال الحرب الأهلية
وأوضح أنه تم إنشاء مساجد ومدارس قرآنية تخرج علماء يعلمون أبناء المسلمين دينهم ليحافظوا على هويتهم، وكذلك فتاوى دار الإفتاء والمعهد الإسلامي للعلوم الشرعية والعربية الذي أنشئ عام 1974م، وخرج منه أكثر من 6 آلاف داعية يرسخون عقيدة المسلمين وهويتهم ولغة القرآن، وعددهم الآن أكثر من 15%.