أورد كتاب السير في الطَّبقة الأولى من التابعين أن رجلاً من بلاد فارس قال: وقعت أنا ونفر من قومي أسارى في أيدي المجاهدين، ثم ما لبثنا أن غدونا مملُوكين لطائفةٍ من المسلمين في البصرة، فلم يمض علينا وقت طويل حتى آمنا بالله وتعلقنا بحفظ كتاب الله، وكان منَّا من يؤدي الضرائب لمالكيه، ومنَّا من يقوم على خدمتهم، وكنت واحداً من هؤلاء، فكنا نختم القرآن كل ليلة مرة، فشق ذلك علينا، فجعلنا نختمهُ مرة كل ليلتين، فشق ذلك علينا، فجلعنا نختمه كل ثلاث، فشق علينا، فلقينا بعض الصحابة، وشكونا لهم، فقالوا: اختموه كل جمعة مرة، فأخذنا بما أرشدونا إليه، فلم يشق ذلك علينا.
وفي يوم من أيام الجمع توضأ هذا الرجل، ثم استأذن سيدته أمية امرأة أبي رباح بالانصراف، وكانت سيدة رصاناً عاقلة وقوراً، فقالت: إلى أين؟ فقال: المسجد الجامع، فقالت: هيا بنا، ثم مضيا معاً، ودخلا المسجد، وهو لا يعلم ما تريد سيدته، فما إن امتلأ الجامع، وارتقى الإمام المنبر حتى قالت: اشهدوا يا معشر المسلمين أني أعتقت غلامي هذا رغبة في ثواب الله وطمعاً بعفوه ورضاه، وأنه ليس لأحد عليه من سبيل إلاّ سبيل المعروف، اللهم إني أدّخره عندك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
التمسك بالقرآن الكريم يطهر القلب ويحفظه من الهوى والزلل
إنه أبو العالية، رفيع بن مهران، أحد أعلام التابعين، الذي دخل على ابن عباس وهو أمير البصرة فرحب به ورفع منزلتهُ، وأجلسه على سريره عن يمينه، وكان في المجلس طائفة من سادة قريش، فتغامزوا به وتهامسوا بينهم، وقالوا: أرأيتم كيف رفع ابن عباس هذا العبد على سريره؟ فأدرك ابن عباس ما يتغامزون به، فالتفت إليهم وقال: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفاً، وَيُجْلِسُ الْمَمْلُوكَ عَلَى الأَسِرَّةِ.
ولما أراد أبو العالية المسير للجهاد في سبيل الله، وجد آلاماً شديدة في رجله، فقال له الطبيب: أنت مصابٌ بالآكلة، ولا بدَّ من بتر ساقك، فأذن له، ولما أحضر الطبيب مناشيرهُ لنشر العظم، قال: أريد أن أسقيك جرعة مخدر لكيلا تشعر بالألم؟ فقال أبو العالية: بل هناك ما هو خير من ذلك، أحضروا لي قارئاً يتقن القرآن، واجعلوه يقرأ ما تيسر من آياته البينات، فإذا رأيتموني قد احمر وجهي، واتسعت حدقتاي، وثبت نظري في السماء، فافعلوا بي ما شئتم، فنفذوا أمره، وبتروا ساقه، فلما أفاق قال الطبيب: كأنَّك لم تشعر بآلام الشق والبتر؟ فقال: لقد شغلني برد حب الله وحلاوة ما سمعتهُ من كتاب الله عن حرارة المناشير(1)، إنه مثال من أروع الأمثلة التي صنعتها الحضارة الإسلامية في تأسيس الدعاة على التمسك بالقرآن الكريم.
فلماذا حرصت الحضارة الإسلامية على ذلك؟
أولاً: الاستجابة لأمر الله وتحقيق محبته:
أمر الله تعالى بالتمسك بالقرآن الكريم، فقال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43)، فمن تمسك به فقد استجاب لأمر ربه، وهو دليل على محبته سبحانه وتعالى، وفي هذا يقول عبدالله بن مسعود: من كان يحب أن يعلم أنَّه يحب الله، فليعرض نفسه عَلَى القرآن، فمن أَحَبّ القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله، وقال سفيان بن عيينة: لا تبلغون ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله، فمن أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل(2)، فمن أعظم ما تحصل به محبة الله تعالى تلاوة القرآن مع تدبره.
ثانياً: الحماية من الوقوع في الضلال:
التمسك بالقرآن الكريم يطهر القلب ويحفظه من الهوى، ففي الحديث الشريف: «تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما؛ كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ»(3)، وقال ابن تيمية: إذا قرأ الإنسان القرآن وتدبَّره كان من أقوى الأسباب المانعة له من المعاصي(4).
ثالثاً: الحرص على رقة القلوب:
القرآن يرقق القلوب ويحميها من القسوة والغلظة، فعن وهيب بن الورد قال: لم نجد شيئاً أرق لهذه القلوب، ولا أشد استجلاباً للحق من قراءة القرآن لمن تدبره(5).
رابعاً: الحرص على حفظ العقول:
القرآن الكريم يحفظ عقول أهله، ويجعلهم أكثر ذكاء وحكمة، فعن عبدالملك بن عمير قال: أبقى الناسِ عقولاً قَرَأةُ القرآن(6)، وقال ابن رجب: مَنْ جَمَع القرآن مُتِّع بعقله(7).
خامساً: النبوغ في العلم:
قال ابن مسعود: إِذَا أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ فَانْثُرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ(8)، وقال كعب: عليكم بالقرآن، فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدث الكتب عهداً بالرحمن(9)، وفي هذا دليل على أن حفظ القرآن أعظم معين على تعلم سائر العلوم، ولهذا كان المسلمون في الحضارة الإسلامية حريصون على تعليم أبنائهم القرآن، وكانوا لا يقدمون عليه شيئاً، يقول محمد بن الفضل: سمعت جدِّي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة ففعلت فلما عيَّدنا أذن لي(10).
حفظ القرآن الكريم أعظم معين على تعلم الأبناء سائر العلوم
سادساً: قضاء الحوائج وتيسير الأمور:
قال إبراهيم بن عبدالواحد وهو يوصي الضياء المقدسي لما أراد الرحلة للعلم: أَكْثر من قراءة القُرآن، ولا تتركه فَإِنَّهُ يتيسر لَك الَّذِي تطلبه عَلَى قدر مَا تقرأ، قَالَ: فرأيت ذَلِكَ وجربته كثيراً، فكنت إِذَا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحَدِيث وكتابته الكثير، وإذا لَمْ أقرأ لَمْ يتيسر لي(11).
سابعاً: كثرة الخير والبركة:
التمسك بالقرآن الكريم يجلب لصاحبه الخير في الدنيا والآخرة، قال أبو هريرة: إن البيت الذي يتلى فيه القرآن يتسع بأهله ويكثر خيره وتحضره الملائكة وتخرج منه الشياطين، وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله عز وجل يضيق بأهله ويقل خيره وتخرج منه الملائكة وتحضره الشياطين(12).
فإذا كانت الحضارة الإسلامية قد اعتنت بإعداد الدعاة على التمسك بالقرآن الكريم؛ فما أهم الوسائل التي اعتمد المربون عليها في ذلك؟
أولاً: الحرص على حفظ القرآن وتهيئة الأسباب المعينة على ذلك:
حرص المسلمون في الحضارة الإسلامية على حفظ القرآن الكريم، وتحفيظه أولادهم، قال ابن خلدون: اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث(13)، وكان أبو منصور البغدادي يجلس لتعليم كتاب الله، حتى تخرَّج على يديه عدد كبير من قُرَّاء القرآن الكريم، وقد رُؤيَ بعدَ مَوتِه: فقال: غَفَرَ اللهُ لي بتعليمي الصِّبيانَ الفاتحة(14).
وقد اعتمد المسلمون في الحضارة الإسلامية نظام التحفيظ الإلزامي للقرآن الكريم، وهو ما يطلق عليه نظام «الكُتَّاب»، وقيل: إن أول من جمع الأولاد على حفظ القرآن الكريم عمر بن الخطاب، وأمر عامر بن عبدالله الخزاعي أن يلازمهم للتعليم، وجعل رزقه من بيت المال، وكان منهم البليد والفهيم، فأمره أن يكتب للبليد في اللوح، ويلقن الفهيم من غير كتب(15)، وقال سهل بن عبدالله التستري: بعث بي أهلي إلى المكتب، وشارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم، ثم أرجع، فمضيت إلى الكُتّاب، فتعلمت القرآن، وحفظته، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين(16).
ثانياً: كثرة تلاوة القرآن الكريم:
ضرب الدعاة في الحضارة الإسلامية أروع الأمثلة في كثرة تلاوة القرآن الكريم، طلباً للأجر والثواب واستلهاماً للدروس والعبر منه، فحين حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها القرآن ثمانية عشر ألف ختمة(17)، وكان عروة بن الزبير يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ويقوم به الليل(18)، وقيل لأخت مالك بن دينار: ما كان شغل مالك في بيته؟ قالت: تلاوة القرآن(19).
التمسك بالقرآن يدفع الأمة إلى أن تتبوأ مواقع الخير والرشاد
ثالثاً: الربط بين حفظ القرآن والعمل به:
قال أبو عبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً(20)، وكان الصحابة ومن بعدهم يربطون بين الحفظ والعمل، حيث أخرج البيهقي عن ابن عمر قال: إنّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وكانت تنزل السورة من القرآن فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها(21).
رابعاً: التحاكم إلى القرآن الكريم في كل جوانب الحياة:
أمر الله تعالى بذلك في قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36)، وقد اتخذ الدعاة إلى الله تعالى القرآن دستوراً لهم، قال رجل لأبي بن كعب: «أوصني»؛ قال: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً(22).
إن التمسك بالقرآن الكريم يسهم في دفع الأمة الإسلامية إلى أن تتبوأ مواقع الخير والرشاد، وتنهض من الضعف والخذلان، فما أحوج الأمة إلى العودة إلى كتاب الله تعالى، ففيه شرفها وعزتها، حيث قال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10)، وقال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف).
____________________________
(1) سير أعلام النبلاء: الذهبي (4/ 207)، وصور من حياة التابعين: عبدالرحمن رأفت الباشا، ص 443.
(2) الرسائل: ابن رجب الحنبلي (3/ 329).
(3) الموطأ (2/ 899).
(4) مجموع الفتاوى (20/ 123).
(5) حلية الأولياء (8/ 142).
(6) موسوعة ابن أبي الدنيا (7/ 571).
(7) مجموع رسائل ابن رجب (3/ 100).
(8) إحياء علوم الدين (1/ 273).
(9) حلية الأولياء (5/ 376).
(10) تذكرة الحفاظ، ص 209.
(11) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 205).
(12) إحياء علوم الدين (1/ 274).
(13) مقدمة ابن خلدون (2/ 1038).
(14) سير أعلام النبلاء (19/ 224).
(15) الفواكه الدواني (1/ 30).
(16) إحياء علوم الدين (3/ 74).
(17) سير أعلام النبلاء (7/ 446).
(18) تاريخ دمشق (40/ 259).
(19) سير أعلام النبلاء (7/ 186).
(20) تفسير الطبري (1/ 80).
(21) السنن الكبرى (3/ 170).
(22) حلية الأولياء (1/ 253).