اطلعت على مقالين بالأمس الأول على «دراسة خاصة لموقع عروبة 22»، للدكتور محمد الرميحي، وهو أستاذ وكاتب كويتي ليبرالي لا ينتقد عملية التطبيع، والآخر كاتب سعودي إسلامي معارض للتطبيع (مهنا الحبيل)، نشر مقولته على حسابه في «إكس».
كلا المقالين من دون الخوض في التفاصيل يحمل باللائمة فعل مقاومة «حماس»، وينظرون للحدث بالطبع من زاوية حشد معلومات وبيانات وفق مواقف محددة برؤية مسبقة ومشبعة بعدم الإنصاف.
وكلا الكاتبين اتفق على أن حركة 7 أكتوبر هي استثمار إستراتيجي للمشروع الإيراني، وليس لـ«حماس» إلا التنفيذ.
مع أن القيادات البارزة في «حماس» في عدة لقاءات نفت علم كل الأطراف بما فيها قيادتها السياسية بهذه الخطوة.
وللأسف، فإن النظر لتحليل الوضع الإستراتيجي في هذه الحرب ونتائجها من وجهة النظر المحورية الواحدة فيه خلل متقيد بتراكمات مسبقة ومواقف محددة، لا تخلو من القفز فوق مسارات الأحداث، فتدلس الحقائق، وتلوي أعناق التصريحات لتصب في خانة الحكم المطوّع مسبقاً، وهذا لا يعبّر إلا عما تعيشه النخب العربية من أزمة في الفكر السيادي، فمن منّا لا يعرف ولم يتتبع المشروع الإيراني ومعرفة خطره في المنطقة ونجاحاته الإستراتيجية، لقد كتبت دراسة كاملة في عام 2012م عن المشروع الإيراني وأخطاره، والفرص المتاحة لتحجيمه، وهناك مئات من الدراسات والمقالات لكُتَّاب عرب في هذا المجال.
لكن جذور نجاح المشروع الإيراني أساساً بدأ منذ الحرب العراقية الإيرانية، وانعكاساتها على المنطقة، تبعه احتلال صدام حسين للكويت.
فدول الخليج وبعض الدول العربية عند تحرير الكويت انخرطت في تحالف أمريكي غربي دولي لتحرير الكويت، وكان المبرر هو مصلحة كبيرة قدرت في حينها من استجلاب القوات الأجنبية للمنطقة وتثبيتها باتفاقيات أمنية لحمايتها، ولو توقف ذلك على تحرير الكويت لكان نجاحاً باهراً لهذه السياسة الإستراتيجية، وكان يكفي دول الخليج ودول عربية أخرى تحجيم عراق صدام بدلاً من الانخراط في إسقاط نظام مهترئ وضعيف بعد حرب تحرير الكويت، ولأبقت العراق على الأقل موازياً إستراتيجياً مع إيران، ولكن انجرت دول المنطقة في السيناريو الأمريكي «الإسرائيلي»، وبالطبع من وراء الستار الإيراني.
كان تسليم العراق لإيران بالتنسيق مع الولايات المتحدة كارثياً، وتم التحكم بمعادلة الأمن في المنطقة بين إيران والولايات المتحدة و«إسرائيل»، وخرج العراق من معادلة توازن القوى لتصبح إيران مهدداً للمنطقة، وحينها لم تكن «حماس» لا في السلطة ولا في حلف إيراني حتى ينسج حولها مقررات ما كتبه الكاتبان من استثمار إيران لـ«حماس».
وباقي القصة معروفة من تسليم سورية ولبنان واليمن للإيرانيين؛ لأنها بالطبع ستكون حاجزاً ومهدداً للمكوّن السُّني ودوله، وستنشئ إيران حالة توازن وقلقاً دائماً لدول المنطقة مما يمهد لاتفاقيات التطبيع مع «إسرائيل».
لقد أفشل العرب أنفسهم في دعم الثورة السورية لإسقاط نظام بشار، فـ«حماس» في الحقيقة لا تقدم لإيران تقدماً ولا دعماً إستراتيجياً حقيقياً.
يذكر وزير خارجية إيران الراحل أمير عبداللهيان في آخر كتاب له «صبح الشام» أنه حضر تنصيب رئيس دولة عربية، وأثناء الزيارة أبلغه وزير خارجية سابق رسالة من هذا الرئيس يطلب منه أن يقدم الشكر للمرشد الإيراني والقيادة، وأن يبلغ المرشد بأن هذه الدولة لن تكون في جيب الدول الخليجية والغربية فيما يتعلّق بالموقف من بشار، وأنه رفض طلباتهم بإدانة المشروع النووي الإيراني ودعم بشار الأسد؟!
لكن «حماس» حركة مقاومة شعبية تريد تحرير فلسطين وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المسلوبة التي فشلت معادلة «أوسلو» في إنجازها بدعم عربي وخليجي ودولي، وقضمت «إسرائيل» كل فلسطين من قدسها إلى ضفتها، ولم يتبق إلا غزة كبقعة محررة وتحت سيطرة المقاومة الفلسطينية.
والسؤال: كيف تعيش «حماس» كحركة مقاومة شرعية في ظل محاور متشاكسة ومتعارضة ومختلفة، في مصالحها وغاياتها، مع توقف الدعم العربي لـ«حماس» إما رغبة أو رهبة أو خضوعاً للسياسات الأمريكية في المنطقة.
فهناك الحصار العربي «الإسرائيلي» على غزة منذ عام 2007م، وهناك اتفاقيات التطبيع التي دشنتها «إسرائيل» مع دول عربية أخرجتها من الصراع مع «إسرائيل»، بل ودشنت حقبة جديدة من إمداد «إسرائيل» باحتياجاتها وتجارتها ونموها، بل وحتى تمديد رؤيتها الإستراتيجية في المنطقة.
وهناك الإجرام «الإسرائيلي» اليومي على الشعب الفلسطيني والحرب المستمرة على غزة منذ عام 2007م إلى اليوم، وهناك العزل الدولي لـ«حماس» وللفلسطينيين، وانتهاكات للحقوق الإنسانية وللقانون الدولي يومياً.
لذا، فإن المتحكم في السياسة الإستراتيجية لـ«حماس» للقيام بواجبها تجاه شعبها هو تقديرها الخاص لموقفها، فهي صاحبة الأرض والشعب في غزة مع باقي الفصائل والكتل الشعبية فيها التي لم تجد معيناً لها إلا بإيجاد التحالفات الممكنة والمتوفرة لمواجهة الحرب الضروس التي يشنها الكيان الصهيوني ومن ورائه الدعم الأمريكي والخذلان العربي والتوحش «الإسرائيلي».
فمن الطبيعي عندما تتوفر فرصة للتعاون مع محور يساعد المقاومة ويدعمها وينمي قدراتها على إدارة المعركة السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ فإنها لم تجد أمامها إلا إيران، هذا التعاون لم يكن إلا بعد حصار غزة عام 2007م، والمتحكم بالقرار وتقدير الموقف ليس هو ما يفكر به الإيرانيون من مشروع، فهذا مشروعهم وبالطبع يعملون بذكاء وصبر عليه في تمديد مصالحهم وقوتهم في المنطقة العربية الشعبية، لكن المتحكم في قرار «حماس» هو المصلحة الشرعية والواقعية، والشرع ما هو إلا تحري المصلحة أو تجنب المفسدة.
فإما تغليب المصلحة الأكبر على المصلحة الأقل أو تجنب للمفسدة الأكبر في سبيل المفسدة الأقل، فهذا يدخل ضمن إطار السياسة الشرعية من تقدير الموقف وبذل الإجراءات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تحقق أقل المفاسد وأكثر المصالح.
والسؤال: هل كان لـ«حماس» ملجأ وموقف يمكن اللجوء إليه منذ عام 2007م؟ وما خياراتها؟
هل تدخل ضمن اتفاقات «أوسلو» مثلاً التي لم يجنِ منها حكم عباس إلا تجذير الاحتلال والسيطرة على الضفة، أو تدخل ضمن اتفاقيات التطبيع مثلاً التي أسست للسيطرة الصهيونية على المنطقة، أم الالتحاق بالنظام العربي الذي قرر إنهاء القضية الفلسطينية بمعادلة التطبيع مقابل دولة فلسطينية غير قابلة للحياة ومنزوعة السلاح.
إن ثمن التحرر من المحتل «الإسرائيلي» لا بد من دفعه، فهناك تاريخ من شعوب تحررت بملايين الشهداء والقتلى والحرب والدمار للبنى التحتية في جغرافيتها، فـ«حماس» لا تستطيع أن تمنع إيران أو الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني أو النظام العربي من ممارسة استثمار حالة الحرب المنعقدة، فهذا ليس بيدها، وإنّ «حماس» انتظمت في المحور الإيراني الذي رفع شعار المقاومة لأنه الخيار المتوافر للبقاء والاستمرار ولإبقاء القضية الفلسطينية حية بين الناس والعالم كما شاهدناه بعد «طوفان الأقصى».
والحل لمن يريد الحل هو بأن يستفيق النظام العربي من غيبوبته الإستراتيجية والعقدية، ويوحد الصفوف لمواجهة ليس إيران فقط، وإنما لحرب محتملة في لبنان، ولاحتمالات حرب عالمية قادمة لا نعلم نتائجها سوى أنها ستكون نهاية العرب، وكما في الحديث: «ويل للعرب من شر قد اقترب!»، بدلاً من تحميل «حماس» مشكلة الأخطاء الإستراتيجية للنظام العربي طيلة عقود ماضية.
هي حرب مفروضة على الفلسطينيين منذ احتلال البريطانيين لفلسطين وتسليمها لليهود عام 1948م، و«حماس» ليست نبتة تختلف عن قوافل الحركات والمجاهدين في فلسطين منذ العشرينيات من القرن الماضي إلى اليوم، وإفاضة الأقلام الغاضبة والدعاية الخطَّاءة ضد «حماس» وشعب غزة، في هذه اللحظات ما هو إلا عبث فكري يصب لمصلحة الكيان الصهيوني ويكبّر الحظ الإيراني.
الخلاصة
إن تمدد إيران في المنطقة العربية واحتلالها لجغرافيتها إنما تم بانتهاج سياسات إستراتيجية خاصة من بعض دول النظام العربي وانخداعه بالوعود الأمريكية والمكر الصهيوني، وليس لـ«حماس» دخل في مشروع إيران التمددي، فهناك دول ترعاه إستراتيجياً كروسيا والصين ودولاً كبرى تتفاهم معه كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودول تشتبك معه وفق قانون الاشتباك، كالكيان الصهيوني وبعض دول الخليج.
فهل فكّر العرب مرة كيف يحلون مشكلتهم مع «حماس»، ويوحدون إستراتيجياتهم تجاه فلسطين؟