مؤشرات عدة كاشفة عن مظاهر للانحلال القيمي في مجتمعاتنا، يمكن أن تقدم قراءة عميقة لمظاهر تفكك الرؤية القيمية الكلية في وطننا العربي.
على سبيل المثال، لا الحصر، تفيد منظمة الشفافية الدولية، في تقرير حديث نشرته على موقعها الرسمي، بفشل معظم الدول العربية في تحسين مواقعها على مؤشر مدركات الفساد على مدى أكثر من عقد من الزمن، وأوضحت المنظمة أنه بحسب مؤشر الفساد لعام 2023م، بلغ متوسط الدرجات المُجمَّعة للدول العربية 34 من أصل 100، مما يشير إلى طريق طويل ينبغي اجتيازه لضمان النزاهة والعدالة في مختلف أنحاء المنطقة.
من جهة أخرى، ارتفعت معدلات الجريمة في العالم العربي، حيث جاء اليمن أولاً بمعدل 45 جريمة لكل 1000 نسمة، وفي سورية بلغت حوالي 40 جريمة لكل 1000 نسمة، وفي بحث أجراه معهد «طاوب» عن معدلات القتل، جاء فيه أنه لو كان المجتمع العربي دولة؛ لاحتلَّ المرتبة الثالثة من ناحية جرائم القتل بعد كولومبيا والمكسيك، وقد قُتل العام الماضي فقط 223 مواطناً عربياً في ظروف مرتبطة بالعنف والجريمة.
أما على مستوى الأسرة، فقد ارتفعت نسبة الطلاق في الوطن العربي، واحتلت الكويت المركز الأول بنسبة 48% من إجمالي عدد الزيجات، حسب إحصاء نشرته وزارة العدل الكويتية، وجاءت مصر ثانية حيث ارتفعت نسب الطلاق خلال 50 عاماً الأخيرة من 7% إلى 40%، ووصل عدد المطلقات إلى 3 ملايين مطلقة، وفي المركز الثالث والرابع، نجد أن كلاً من الأردن وقطر، قد ارتفعت بهما نسب الطلاق إلى 37.2%، و37% على الترتيب.
وفي عام 2022م، صرح مسؤولون عراقيون بأن أكثر من 50% من الشباب العراقي يتعاطون المخدرات، بينما بلغت هذه النسبة في مصر 6% مسجلة تراجعًا عن النسبة قبل عقد من الزمان، أما في السودان فبلغ عدد المدمنين 6 ملايين، مع صعوبة حصر الأعداد الحقيقية جراء تفشي المخدرات بين الشباب.
فماذا أصاب المجتمعات العربية إذاً؟
يتحدث علماء الاجتماع عن أن كل مجتمع لديه ما يسمى بالنموذج القيمي، ويعرف هذا النموذج بأنه الرؤية القيمية الكلية التي تؤمن بها المجتمعات، أو القواعد الكلية الحاكمة والمعايير الثابتة الراسخة والمبادئ المطلقة التي تضبط وتحكم وتقيّم تصرفات ونشاطات المجتمع السلبية والإيجابية.
وتمثل هذه القيم معايير لما يجب أن يكون، ووفقًا لهذه المعايير تتشكل طبيعة وشكل النظام الاجتماعي وما هو مقبول وما هو غير مقبول، ما يجب أن يكون أو لا يكون، ما هو مرغوب فيه أو غير مرغوب فيه.
وتؤدي منظومة القيم والمبادئ التي يؤمن بها الفرد ويعتنقها دوراً بارزاً في ترشيد قراراته، وانتقاء اختياراته، وتنظيم سلوكياته، وإدراك العالم من حوله، وتحديد موقعه ودوره في هذا العالم، كما أنها تجيب عن التساؤلات المصيرية في حياة الأفراد بسبب شموليتها للجانب الروحي والمادي.
أما على مستوى المجتمع، فمنظومة القيم تدعم تماسك النسيج الاجتماعي، حيث تحدد للمجتمع أهدافه الكلية ومثله العليا ومبادئه الثابتة، وتساعد المجتمع على مواجهة التغيرات والمستجدات بتحديدها الاختيارات الصحيحة، كما أنها تحافظ على هوية المجتمع وبصمته الخاصة به، مما يحول دون ذوبان هذه المجتمعات في غيرها وتأثرها بموجات التغريب والتشريق والغزو الفكري والثقافي، كما أنها تعمل على إعطاء النظم الاجتماعية أساساً عقلياً يصبح عقيدة في ذهن أعضاء المجتمع المنتمين إلى هذه الثقافة، كما أن القيم تمد المجتمع بالصيغة التي يتعامل بها مع العالم وتحدد له أهداف ومبررات وجوده، ومثل الدين والفطرة السليمة والعقل والأعراف المجتمعية مصادر تستقي منها المجتمعات العربية قيمها، ويتم تمرير هذه القيم للأفراد عبر مؤسسات التنشئة والتوجيه الاجتماعي المختلفة، كالأسرة والمساجد والكنائس والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام وغيرها، ومن ثم يتعلق رسوخ النموذج الاجتماعي من انحلاله بوضوح مصادره التي يستقى منها، والحضور المجتمعي القوي لمؤسسات التنشئة والتوجيه والقائمين عليها.
لكن العصر الذي نحيا فيه وما يتسم به من حركة وسرعة دائمتين، بالإضافة للتطور التكنولوجي المهول الذي شهده العالم الحديث، وتقليص فوارق الزمان والمكان، وسرعة انتشار الأفكار والمنتجات، دفع كل هذا لتداخل النماذج القيمية وتفاعلها من جهة، لكنه دفع بالتغيير ليكون قيمة وهدفاً في حد ذاته من جهة أخرى.
أسئلة الهوية
والخطوة الأولى لركوب قطار التغيير الذي لا يتوقف هو رفض الإنسان للقيم التي يؤمن بها وفك ارتباطاته المسبقة، خصوصًا تلك التي تتسم بقدر من الثبات والاستمرار، كالدين أو القبيلة أو الأسرة وغيرها، حينها لا يكون الإنسان إلا فردًا، ويفقد عضويته في حواضنه التي كانت تقدم له يد العون، وأيضًا تقدم له العديد من الإجابات عن أسئلة الهوية ومعنى الحياة والغاية وغيرها، فيعيد طرح هذه الأسئلة على نفسه، وتبدأ رحلته شديدة الفردية في الإجابة عنها، لكن لا إجابة نهائية لأن التغير في العصر والإنسان لا يتوقف، مما يضفي طابع النسبية على كل شيء، وتفقد القيم معناها، ومن ثم تعجز عن أداء وظيفتها على المستوى الفردي والاجتماعي، بالإضافة لهذه التغييرات على المستوى العالمي، فإن هناك تغييرات خاصة بكل مجتمع على حدة، فالوضع السياسي والاقتصادي وتأثيراتهما الممتدة مجتمعيًا، قد تسهم مع باقي العوامل المذكورة في التأثير على مستوى المصادر ومن ثم مضمون القيم ذاتها، وعلى مستوى الدور المنوط بمؤسسات التنشئة، فيحدث ما يسمى بالانحلال القيمي.
والانحلال القيمي هو عملية تفكك للرؤية القيمية الكلية للمجتمع والقواعد المعيارية الحاكمة له، بفعل التغيرات السريعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مختلف المستويات، مما يصيب المجتمع بحالة من الاضطرابات القيمية التي تنعكس في سلوك الأفراد والجماعات.
أي أن هذه الإحصاءات التي بدأنا بها المقال هي انعكاس لحالة من الانحلال القيمي التي أصابت المجتمعات العربية على كافة الأصعدة، نتيجة تفكك النموذج القيمي الحاكم لهذه المجتمعات، وانزلاقها لحالة من الاضطرابات القيمية والسلوكية تدفع بالضرورة لمساءلة التغيرات التي دفعت لتفكك هذا النموذج من جهة، ومساءلة النموذج نفسه من جهة أخرى، ومدى فاعليته المجتمعية في التعامل هذه التغيرات، وعملية المساءلة هذه تمثل الخطوة الأولى في إجابة سؤال: ما الحل؟