سؤال الهوية معقد، وقد يلاحق المرء في أحيان كثيرة، وسط صعوبة في الإجابة عنه، في خضم تحديات فرضها التقدم التكنولوجي الهائل، والتطور التقني في وسائل الاتصال والتواصل، بشكل جعل العالم قرية صغيرة، ومعه بات الإنسان فريسة لكل ما هو جديد وغريب.
لكن من الحكمة تبسيط الأمور للصغار والمراهقين من الجنسين، وتقديم الإجابة عن التساؤلات الكبيرة بطريقة سلسلة وموجزة، حتى لا يقع أبناؤنا ضحية للتغريب والعولمة والغزو الفكري والثقافي والاستلاب الحضاري، دون منقذ.
بداية، يجب أن تتحدد البوصلة بشكل واضح وجلي أمام أبنائنا، خاصة ما يتعلق بهويتهم الإسلامية، وكونه مسلماً يرفع شهادة التوحيد، ويؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وأن الدين عند الله الإسلام، وأن هناك حدوداً لله، وأوامر ونواهي عليه أن يلتزم بها، وشريعة في إطار الكتاب والسُّنة، هي منهاجه ودربه في هذه الحياة الدنيا.
قد يعتقد البعض أن هذه أمور بديهية، لكن موجات التغريب والإلحاد والشذوذ التي ضربت الأجيال الجديدة، وسيطرت على وسائل الإعلام والتواصل، توجب علينا التأكيد على تلك الثوابت، وإحياء تلك الجذور، وإنارة الطريق لتخرج تلك الأجيال من الظلمات إلى النور، وهي على هدى وبينة، لا يساورها شك أو ظن، ولا يزحزح عقيدتها منافق أو ملحد.
سؤال الهوية الثاني يتعلق بالكينونة العربية، لغة ولساناً وتاريخاً وجغرافية، والاتصال بأمة العرب، بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، والاعتزاز بذلك، قولاً وعملاً، متيقناً بعزة أمته حينما تمسكت بلغتها ودينها، وأقامت حضارة قادت الأمم في قرون سابقة، وقدمت منجزات حضارية يشهد لها التاريخ.
إن من الأجيال الجديدة من قد يشعر بالعار والخزي، من انتمائه لدولة عربية ما تقبع في ذيل البلدان في مؤشرات العلم والتقدم والتطور، وقد يخجل من لغته العربية، فيلتقط بلسانه عدة مفردات باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ويظل يثرثر بها، ظناً منه أن في ذلك علامة للرقي والتقدم، متخلياً عن ثقافته ولسانه العربي، في انكسار أمام أصحاب اللغات الأخرى، وانزواء أمام ثقافات، لا تضاهي ما تجسده ثقافتنا من قيم ومبادئ وتراث وتاريخ.
وأما سؤال الهوية الثالث، فهو غير تقليدي، وهو نتاج متغيرات جديدة فرضت نفسها على عالم المراهقين والشباب، الذين قد يتهمون بالجمود والتخلف من أقرانهم، حال تعلق الأمر بطريقة الحياة التقليدية والكلاسيكية أم «المودرن»، وهو سؤال يحمل في طياته ضغوطاً اجتماعية ومادية، تتعلق بطريقة الملبس، وقصة الشعر، ونوع الهاتف الذي يقتنيه، ونمط التسوق، إلى نوع المأكل والمشرب، في عالم شره استهلاكياً، يساير الموضة و«البراندات» والماركات العالمية، بشكل مادي فج.
ربما هناك تساؤلات أخرى تتعلق بالهوية، تمس جوانب أخرى في حياة المراهقين والشباب، مثل الفريق الأوروبي الذي يشجعه في كرة القدم، واللاعب الأسطورة الذي يهوى ارتداء قميصه، والنجم الأمريكي الذي يعشق أفلامه، وفرقة «البوب» التي يدمن موسيقاها وأغانيها، والمصارع الذي يقلد حركاته، و«اليوتيوبر» الشهير الذي يتابع قناته على «يوتيوب»، و«التيك توكر» الذي يستأثر بزياراته ومشاهداته، إلى غير ذلك، من تساؤلات فرضتها زوايا وأبعاد جديدة، تتعلق بالهوية الشبابية، التائهة حقيقة في عالم الموضة.
إن هوية جديدة تتجسد أمام أعيننا، ربما أزعم أنها تجاوزت ثلاثية الدين واللغة والتاريخ، وفرضت مكونات أخرى تمس العقيدة، والعرف، والعادة، إلى جانب الآداب والقيم، مروراً بالتعليم والزواج والصداقات وغير ذلك من صور الحياة الاجتماعية الحديثة في القرن الحادي والعشرين، التي أعادت تشكيل وصناعة هويات جديدة وغريبة، بمسحة غربية، ونكهة مشوهة.
ومع التطور المتسارع في المنصات والوسائل، والتنوع المتزايد في الأفكار، والتنافس الحاد بين الأيديولوجيات، والتلاقح بين الثقافات، وتعدد المآرب والغايات، بات من واجب الوقت، دراسة تلك الهويات، والبحث في خصائصها وماهيتها، والتنقيب عن جذورها ومبادئها، واستكشاف ما لها وما عليها، وكشف ما تروجه من مفاهيم، وما تطرحه من رؤى، وما إذا كانت مقوماً بناء، وإضافة نوعية، أم عامل هدم وتبعية في ثوب جديد.
لعلنا في حاجة إلى تأسيس نواد للمعرفة وتبادل الثقافات، أو مراكز تكوين للهوية، تعين الأجيال الجديدة على إيجاد ذواتهم واستكشاف أنفسهم، والتحاور مع الآخر والارتباط مع الجذور، ليس من قبيل العلاقة الأبدية مع الآباء والأجداد، بل من بوابة الانطلاق بالجذور إلى آفاق أرحب، تتكيف مع متغيرات الواقع في هذا العالم الرقمي، في إطار التعاطي المنفتح والمنضبط مع ما قدمه الآخر ومنجزاته على كل الأصعدة، دون انبهار به أو تقليل من شأنه أو استعلاء عليه، بل صهر كل ما هو نافع في هوية متماسكة راسخة صانعة للإبداع.